خواطر حول فلسطين في زمن الاستشهاد

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 3 أغسطس, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 3 أغسطس, 2024

خواطر حول فلسطين في زمن الاستشهاد

بلغني خبر استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، بعد سهري مع كتاب “شيء عابر.. يوميات حمدي طاهر كنعان”، تحرير المؤرخ والباحث بلال شلش، وإصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.. كنتُ أتصفح سيرة كنعان، رئيس بلدية نابلس، وأفكر في وضع فلسطين بعد هزيمة يونيو 1967م.

دار حوار بين رئيس البلدية ووزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه ديان، وكان ذلك بعد أن اكتشفت سلطات الاحتلال مستودعًا للسلاح في “بيت الهدهد” بالبلدة القديمة، فاستدعت رئيس البلدية ومعه رجالات من البلد، وكانت السلطات تصرّ على تسميتهم “وجهاء البلد” وليس “رافضي الاحتلال ومقاوميه”. دخلوا قاعة اللقاء فإذا بوزير الدفاع وحوله أركان حربه في القاعة، وقد عرضوا على أرضية القاعة الأسلحة والمتفجرات والصواعق المضبوطة، وتكلم الوزير ديان وقال بحِدّة وتجهُّم: “إن هذه المتفجرات تكفي لنسف نصف المدينة”.

وفهم الرئيس حمدي الرسالة، فوقف كالنمر مخاطبًا ديان: “إن كل القوانين والأعراف الدولية تقرّ للشعب المحتل بحق المقاومة وبأي طريقة، ونحن بدورنا علينا أن نقاوم احتلالكم”. وهنا قاطع الوزير ديان الكلمة، وقال: “أتريدها أيها الرئيس فيتنام؟”؛ فأجابه أبو الطاهر: “نحن قدّها وقدود”.

كانت هذه الحادثة والمُلاسَنة قمة التصادم والتحدي، وإعلانًا صريحًا عن موقف واضح فهمه ديان وفهمته السلطات كلها. كان حمدي كنعان يُجهد عقله وفكره عند مواجهته أي مشكلة، ولم يدعْ مجالًا للعاطفة، وهذا جعله لا ينكسر مطلقًا أمام السلطات، وهذا النص الذي عمل عليه المؤرخ والباحث الفلسطيني بلال شلش يدل على أن مقاومة أهل فلسطين لمخططات الاحتلال استمرت في كل مراحله، من النكبة إلى ما بعد 1967، وإلى يومنا هذا.

إن تتبُّع مسيرة قادة فلسطين يذكرني بعبارة قال فيها الفيلسوف فريدريك نيتشه: “لكي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عِشْ في خطر!”.. ومن الذين تأثروا بتلك العبارة البطل أحمد عبد العزيز في حرب فلسطين، وأخبر عبد الرحمن بدوي أنه طلب أن تُكتب العبارة ذاتها على شاهدة قبره، والعبارة ترد في السيرة الذاتية لبدوي.

فدوى طوقان تقابل ديان

ليس فقط رئيس البلدية هو الذي عبّر بشجاعة عن المقاومة منذ خمسين عامًا، ففي ثنايا المذكرات ترد حكاية عن موشيه ديان والشاعرة فدوى طوقان.

غضب ديان من مقاومة أهل فلسطين وهدّدهم عندما اكتشفوا أسلحة في نابلس قائلًا: “إن هذه الأسلحة لو انفجرت لدمَّرت كثيرًا من المباني، وإن واجب المسؤولين في المدينة هو التعاون لمقاومة هذه الحركة”، وأكد أن السلطة لا تتهاون مطلقًا مع “المخربين” (يقصد رجال المقاومة، وشكا من تحريض عناصر معينة، ومنهم الشاعرة فدوى طوقان التي ما فتئت تنظُم القصائد القومية بالتحريض على السلطة، وهذه الأمور “لا تستطيع السلطة السكوت عنها”.

هكذا ترى من خلال اليوميات كيف لم يتوقف أهل فلسطين عن المقاومة بالفعل والسلاح والشعر والأدب.. مقاومة مستمرة.

ويحكي حمدي كنعان في اليوميات أنه بعد أسبوعين “زارني الميجور دافيد فارحي، وحدثني قائلًا: إن الوزير ديان يتذوق الشعر، وقد ترجمنا له قصائد الشاعرة فدوى فأُعجب بها، وقد رغب في الاجتماع بها”.

وتحكي فدوى طوقان في حوار لها أنها كتبت قصيدة “شُبّاك التّصاريح”‏، التي قالت فيها إن الإسرائيليين قد قتلوا الحب في أعماقها وتتمنى لو تأكل من أكبادهم. وأثار الإسرائيليون ضجّة في صحفهم ومجلاتهم حول “آكلة الأكباد”، وكانوا حينما يدخل أحدهم إلى مطعم عربي يقول: أعطني قائمة طعام فدوى طوقان!

وبدأ الوزير ديان حديثه مخاطبًا فدوى: “لقد اطلعت على القصائد الشعرية التي نظمتِها مؤخرًا، ووجدتها تعبِّر عن كره عميق لليهود، فأحببت أن أراكِ شخصيًّا لأرى بنفسي إلى أي حدٍّ تحملين لنا هذه الكراهية”، فأجابت فدوى قائلة- كما يحكي كنعان-: “إنني لا أعرف الكراهية تجاه أي إنسان مهما كان جنسه ودينه، ولكنها أحاسيس أملتْها عليَّ ظروف الاحتلال”، وقد أبدى الوزير إعجابه بشعر فدوى، حتى قال لها: “إنني أتمنى أن يكون شعراء إسرائيل ثوريين مثلك”.

ومما يُذكر بشأن هذه الزيارة أن بعض الشبّان اليهود وجَّه لومًا إلى الوزير ديان في إحدى الندوات لمقابلته الشاعرة فدوى التي نظمت شعرًا ينضح بالكره والتحريض على اليهود، فأجابهم الوزير: “كنت أتوقع أن تلوموني لأنني تأخرت عن الاجتماع بها”.

يوضح كتاب “شيء عابر” أن اهتمام ديان بشعر فدوى كان بعد ندوات شعرية أقامتها في غير مدينة داخل فلسطين، خصوصًا إثر ندوتها في “بيت جالا”، إذ تتحدث طوقان عن استدعاء حاكم “بيت لحم” العسكري عددًا من الحضور، كان منهم رئيس بلديتها، إلياس بندك، مستنكرًا السماح لطوقان بإلقاء قصائدها الثورية.

غزة والواقع

تكشف مأساة غزة نفاق الغرب في التعاطي مع القضايا العربية، وتكشف حاجتنا إلى الحرية والديمقراطية، ووجود تمثيل سياسي لشعوبنا التي تهتم بأمر فلسطين، وتكشف كذلك أن معادلة البقاء في الحكم في بعض البلدان العربية ترتبط بالحفاظ على أمن العدو (إسرائيل) وضمانه، كما تكشف غزة عن بشاعة النظام الدولي، وعجز الأمم المتحدة، والسياسات المتحيزة للولايات المتحدة في دعم إسرائيل.. غزة كشفت نفاق الغرب وأمريكا، وكذب دعاوى تلك البلاد، ونظرتهم الدونية للبلاد العربية.. عالم مُنحط يدّعي التفوق الأخلاقي. وهي- أي غزة- تكشف خسارتنا الكبيرة مع إفشال الربيع العربي، واعتقال الأصوات الحرة المؤيدة لفلسطين.

غزة! أسأل الله يلطف بها، تعجز الكلمات عن التعبير عن مأساة أهلنا هناك.. كل يوم حزين في سقوط الشهداء من أهلنا في غزة يوم ثقيل على النفس، نرى عدوًّا قاسيًا وجبانًا، بل عدوًا حقيرًا يستهتر بأرواح الناس، ويقتل عشرات الأطفال والمدنيين. حتى العرب-الظاهرة الصوتية- اختفوا.. يا رب لُطفك بأهل غزة، وعليك بكل مَن خذلهم!

تأتي على الإنسان لحظات يفقد فيها مزاجه الهادئ المطمئن، يشعر بالتنغيص من أخبار قتل أهله في غزة، ويطالع الأخبار التي تأتي دائمًا بما يعكّر صفو البال، ومن طغيان إسرائيل.

أسمع أخبار رحيل الصحفي والمراسل إسماعيل الغول، وأتضامن مع كل الزملاء المراسلين الذين يعملون ليل نهار في تغطية الأخبار، خصوصًا مَن هُم في غزة وتحت القصف، فضلًا عن خوفهم على عائلاتهم، وهدم بيوتهم والجوع وانتشار الأمراض.. يريدون إقناعنا في الكتب بتقدُّم العالم، وأن العنف قلَّ مع عصرنا، هذا كذب وسخف، نحن نرى مجزرتنا والاستهتار بدمنا على الشاشة.

في النهاية، لا تغادر غزة بالي من الصباح إلى المساء، في كل شربة ماء وكل لحظة حياة عادية يُحرم منها أهلنا، لا يغادر عقلي عدم اكتراث الحكام وضعف الإرادة السياسية وخذلان الناس أهلَنا.. شعور بالهَمّ وفِكَر تجول في الخاطر، أساسها ضعف العرب، ورؤية المجازر التي تحدث يوميًّا على الشاشات.

أحزان غزة غيّرت أحزاننا الشخصية، كل ألم خاص أصبح لا يتجرَّأ على التبجُّح أمام معاناة غزة، كل مكابدة وتعب وكدح يصبح هيّنًا أمام قتل أُمٍّ أمام طفلها، أو توديع أب لابنه وهو روح الروح، أحزان غزة جعلت عقولنا مشوَّشة أمام إبادة شاملة وعنف كامل وإجرام منظم، غزة مظلومة وأهلها مساكين يتعرضون لأبشع أنواع المعاناة والظروف الإنسانية الصعبة.

ليس لي صوت أناشد به ضمير العالم، حتى صوتي ليس له قيمة في وطني، أنا مغلوب على أمري، أنا رجل منفيٌّ في عالم لا يسمع إلا الأقوياء والمتجبرين، أنا فقط حزين على أهلي هناك، هؤلاء الذين يشبهون وجه أمي وأبي، وأطفال عائلتي.

لقد مرَّ عقدٌ من موت السياسة لدى الشعوب في العالم العربي، وتضعنا أحداث غزة مع كل الأسئلة المؤلمة التي هربنا منها عن دورنا، وعن الاستبداد وانعدام الحرية، وتقتل أي انبهار بالتجربة الغربية، فقد كشفت تلك الأحداث عن النفاق والعَمى الذي يتمتع به الآخر في نظرته إلينا.

فكرت الروائية رضوى عاشور وهي تكتب رواية الطنطورية: كم مذبحة يمكن لنص روائي أن يحتمل؟ وكم كارثة على القارئ أن يتحمّل؟ فقد تخنقه الوقائع فيهرب!. أشفقت الكاتبة على القارئ من حكايات المذبحة، فما بالك والناس تعيش واقع القتل، وجرائم الصهاينة أكبر مما يحتمله قارئ أو مُشاهد؟.

ختامًا، يقول المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يُفقِر والإقدام قتَّــــال

البطولة والشجاعة معانٍ تفتن روحي، وكذلك النظر إلى الدنيا باستخفاف، كما في تصرفات أبطال غزة الذين يقاومون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...