
سجدة دافئة في مونتريال
بقلم: مهنا الحبيل
| 14 أغسطس, 2024

مقالات مشابهة
-
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة...
-
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً...
-
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي...
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
مقالات منوعة
بقلم: مهنا الحبيل
| 14 أغسطس, 2024
سجدة دافئة في مونتريال
كان الثلج ينهمر بكثافة على مركز المدينة في مونتريال، دوماً يمازحها الأصدقاء والصديقات بالكلام عن نجاتهم من كثبان الثلج، وخاصة حين قررت بعض الصديقات الانتقال إلى فانكوفر أو تورونتو.. لا بأس، فالعبور من مربع مجمع جامعة ككورديون فيه حيوية جميلة، وبمجرد أن تدخل المرفق تسكن للدفء.
لكن ليلى تغضب من موجات الكآبة المصحوبة برعشة قلب تعاودها، تسرق نظرة سريعة إلى مسجد المدينة، يُذكّرها بتاريخ شخصي مختلف تماماً عن اليوم، فتقتلع ذاتها من تلك الذاكرة، وبالذات من تاريخها في الحجاب.
هذه المرة أطرقت ليلى في التفكير، لماذا لا تقبل الدعوة وتسهر ليلة حمراء مع رفيقاتها الأخريات، فهي اليوم متحررة تهاجم الدين كما يفلعن، تتحفظ على بعض عباراتهن لكن الفكرة واحدة، تعاد القصة في جلسات السوشيال ميديا، حكاية النظام المستبد الذي يعسف بذات الإنسان وكل حقوقه، وكان يستخدم في عهدها كتلة من مشايخ الدين المستبدين، لكنه لم يعد يفعل ذلك اليوم، وأصبح طاقمه مطابقاً لمفاهيم القيم المادية، ومنفتحاً في مهرجاناته على مشروع عرض الجسد المفتوح، لكي يُثبت تحرر المرأة!
أعادت ليلى أيضاً مراجعة سجل بعض رفيقاتها، وكان هذا السجل هو المانع لها من التقدم إلى الليالي الحمراء، تساءلت ليلى عن هذا التحول في عرض الجسد أو تناول الخمور، أو التراقص بين أحضان العشيق الموسمي، عن الشابات اللائي قدِمنَ من الوطن المعتقل ذاته باسم الحقوق والحرية السياسية، ماذا تبقى منها؟ بل ماذا تبقى منهن؟
لم تقتنع بعلاقة الفكرة الأولى ثم نهاية مسرح الرحلة، لتكون الأنثى الشرقية الجديدة مجرد رقم استعراضي يُبشر بالمثلية والإلحاد، حتى تُعلَن الشابة المهاجرة الجديدة امرأةً تقدمية.
تغيرت الروح المعلنة رويداً، بقي من يكافح في سبيل إنقاذ شعبه، لكن تسربت كثيرات إلى مشاريع الحياة الشخصية، عملٌ مجهد ثم التسلية الجنسية في عطلة الأسبوع، ولا بأس من تناول قضية سياسية، تُختم بسب الدين وأنه هو من يخنق المرأة، خاصة أن الواعظ الذي تجسد في شخصية معارض (وطني) يُعطي وجبات ممتعة لنزوة الضحك للطعن في القرآن، وهو يشترط على أي مفهوم فكري للإنقاذ أن يُفاصَل الإسلام في ضمير شعبه وهويته (المتخلفة)، حتى العروبة لم تعد لها قيمة، فهذا المواطن أصلاً جندر لا تعريف جنساني له، هكذا يعظ المعارض التقدمي مريديه.
لم تعد ليلى ترتاح للواعظ الملحد المتطرف، بسبب خديعة كبيرة تعرضت لها إحدى رفيقاتها على يديه، فسقطت بين نزوته وموعظته في الإلحاد، فكَبُرت عندها الصورة، وحضر سؤال القلق وطُرح مفهوم الحرية من جديد، ما هو؟ وأين هو؟
بين نموذج النظام القمعي المستبد في الوطن، وبين العربيد المعارض الحقير الذي ورّط صديقتها، والذي تلتقطه قوى غريبة، ويتلقى دعما ويُسنَد من منظمات نوعية، توقفت ليلى في منتصف الطريق، كانت هذه الفِكَر تعصف بحديث الوجدان الصاخب لديها، وكانت تتناوب مع مواسم الكآبة، لكنها كانت تأنس بصفية.
صفية شابة أندونيسية مسلمة متدفقة المشاعر والحنان، تعرفت إليها مؤخراً، فقد قدمت للدراسة في جامعة كندية، في مونتريال، حجاب صفية وروحها الدينية حاضرة، وهي مع ذلك متدفقة البسمة مشرقة في علاقاتها، تشعر ليلى عند كل لقاء، وكأنها تريد أن تُلقي بنفسها في حضنها المعنوي، حتى تكون بين يدي هذه الروح الطاهرة، وما أقل نماذجها في عسف الغربة وزمن المحنة.
عادت ليلى إلى محادثة سابقة مع صديق إسلامي معارض، أشار لها باسم نوح تعقيباً على سؤالها الفكري، نوح من رفاق عامر الغريب، احتجب نوح عن أسواق السوشل ميديا، وركز على صناعة ثقافته، كره تزوير النظام للدين، وخنقه للمصلحين، فقرر الهجرة بصمت، واتخذ له مساراً خاصّاً في خدمة الشعب، وبدأ في تأسيس مفاهيمه الفكرية، ونظم شبكات علاقاته، وله رفاق مسجد خُلّص، لكنّ نوحاً ورفاقه سعوا أيضاً للابتعاد عن بعض الكتل المصلحية في بعض المراكز الإسلامية.
كان نوح صامتاً، لكنه كان يقرأ لوحة الفساد الأخرى في هذا المركز الإسلامي، أو ذلك الواعظ الديني “البزنس”، فيستعيد صورة الدين المسروق في وطنه، ففتنة المصلحة والمال لا جغرافيا لها، وهناك من يتاجر بها في الغرب والشرق، غير أن رفاق عامر أدركوا قصة الأخلاق في الإسلام، فثبت لديهم هذا المجهر وعبروا به إلى الحياة، حياة القلوب وحياة الناس.
لم تكن ليلى قد أجرت الاتصال بعد، أخذت الرقم من الصديق المشترك، وهو حامد، حدثته عن المقطع الصوتي الذي نشره لنوح، في أحد القروبات المشتركة، حول مفهوم المرأة والحقوق، اختلف عن السائد الديني، ولا يتفق مع الهجوم الإلحادي، الذي يُشعَل في سمر الرفاق والرفيقات الملحدات كل مرة، ثم طلبت المزيد، فبعث لها حامد مدونة نوح الشخصية، فكانت الحيرة أكبر.
قلبت النظر في الجهاز والوقت متأخر في فرع تيم هورتنز، الذي يفتح طوال الوقت، لكن حضورها آنس الفتاة التي تُناوب ليلتها في المقهى، في ظل حضور بعض الهوملس، وهي مهاجرة أيضاً فكان “كل غريب للغريب نسيبُ”، تستأنس كل منهما بحضور الأخرى.. الوقت متأخر، فهل من الممكن أن أتصل بنوح لأطرح سؤال الحياة الكبير؟ هل هذا وقته؟.. تساءلت ليلى.
فتحت بطاقة نوح في سجل المضافين في الواتس، رأته متصلاً، الهد فون (السماعة) موجودة، والمقهى قليل الزبائن، فما المانع أن أسأل إذن؟.. قالت ليلى.
عادةً تبدأ التحية بـ”مرحباً”، أو “أهلين”، إذ إن الرفاق الجدد المهاجرين يرون مقولة “السلام عليكم” عبارة تخلّف، لكنها قالت “الأمر مختلف، يجب أن أبداً بما يناسب نوح”.. ثم ضحكت، لكن عينيها دمعتا! أهي روح نوح أم روحنا معاً؟ أهو مجتمع نوح أم مجتمعنا معاً؟ أفي تلك الدُور وتلك الأروح آباء نوح وأمهاته، أم آباؤنا وأمهاتنا معاً؟ ألستُ ليلى بنت تلك الديار الشرقية الدافئة؟
انطلقت بالسلام وبعثت الرسالة، وهي تسعى لكبح طوفان المشاعر الذي يجتاح وجدانها، وكأنهُ لحظة انتفاضة لحصيلة الرحلة الأخيرة في الغربة. لكن نوح رد على الفور: وعليكم السلام.
قالت له: أنا ليلى، أخذتُ رقمك من حامد.. واعتَذَرَت لتأخر الوقت..
رحب بها نوح، وقال: نعم، حامد أخبرني، لا مشكلة أبداً، فقد كنتُ ساهراً لبعض القراءات، تفضلي بالاتصال متى أحببتِ..
بالفعل بدأت حكاية لم تخطط لها ليلى، اندفعت ثورة الأسئلة عن الوجود، الدين، الحياة والأخلاق، العدالة والظلم، المرأة المهمشة والمرأة المسحوقة، والمرأة الإنسان، كانت تتحدث بتوالٍ وتعبير عاطفي منفعل..
توقفت بُرهة ..اسمح لي نوح، أنا أكثرت عليك أسئلتي.. قال لها: لا..لا ، لا تتوقفي، واصلي..
كانت تشعر أن هناك حالة ارتياح تتمكن منها، في بعثرة أسئلة الشك الكبرى، وخاصة بعد أن قفز لديها مصير الرفيقات وخبث بعض الرفاق، وصور الإنسان الآخر الذي كان يُبشّر به في أول قرار التمرد وتُستقطَب به الفتيات، فاندفق ذلك التاريخ ونوح يستمع حتى ملأت كأس السؤال.
لاطف نوح ليلى مخففاً عنها ضريبة هذا الحمل الكبير، ابتدأ بحكاية أدبية، ثم مقولة لفيلسوف غربي شهير حول حتمية الخالق، ثم عبر الى سؤال الأخلاق في العالم، بعد أن كشف مسرح الوجود، والفرق بين الحتمية الوجودية المدللة في هذه الدنيا، التي يستشعرها الإنسان في كل تفصيل في جسده، وفي العالم من حوله، وبين القصة التي نُحتت عبر الرأسمالية الحديثة، وأعلنت الحتمية التاريخية التي ينتهي لها العالم بزعمهم.
وبقي سؤال الروح المعجر قائماً..
تتالى شرح نوح عن هذه الروح ودلالاتها، ويقينية الاستدلال بها وقوته، حتى شعرت ليلى أنها ترتوي، وكأن السُقيا تتمكن من قلبها الجاف فتُحيي مشاعرها من جديد! توقف العرض وقال نوح:
ليلي، يقول لي الرفيق عامر دوماً: إنك إن تُبصر الحقيقة فلا تغفل عن رَيّها.. قلتُ: وكيف أفعل؟ قال: بالصلاة.. نحن لا نخدع الناس بالعاطفة، ولكن نحيي يقين عقولهم بحراك قلوبهم، الأدلة جلية في قبلتك لكنها ستبعد عنك، يوم أن تنحرف بوصلتك.
شعرت ليلى بصاعق كهربائي يضرب جسدها، استنكرت هذه القشعريرة، ولكنها أنِست بها، كفكفت الدمع وشكرت نوحاً، وأغلقت الهاتف..
انتبهت إلى أن الفجر قد طلع، أي أن الحوار استغرق الليل كله، أخذت معطفها، وخرجت من المقهى، وحيّت الفتاة التي كانت ترقب حوار ليلى وتفاعلها، لكن دون أن تعرف الحكاية..
في منعطف التقاطع الذي يتربع في قلب مونتريال، أجالت ليلى النظر، مرةً أُخرى تبحث عن البوصلة، فوجدت لافتة مسجد المدينة، تقدمت له بخطى مرتبكة، وهي تستذكر أن وقت الفجر قد لا يُفتح فيه مصلى النساء، أو لا يكون مهيأً لندرة من يحضرن، لكنها واصلت خطواتها، ثم وقفت عند الباب، أدركها أحد الشباب من صحبة المسجد، فنادى عليها: Sister sister .. أختي أختي ..هذا هو مدخل الأخوات تفضلي.
دخلت وتوضأت، ثم وقفت، لم تُقم الصلاة بعد، لكنها في شوق للقاء الأرواح.. كبّرت، فتداخل الدمع مع الفاتحة، ثم هوت للسجود فإذا بتلك الطمأنينة تحتضنها، فألقت ليلى روحها بين يديها، فأشرق الإيمان بالله الحبيب المحب، فاختلط النشيج بالتسبيح، وغلب فرح الدموع قلعة الكآبة في سجدة دافئة، وليلى تُسبّح وفي نفسِها ضوء اليقين.. نورٌ إنّي أراه!.

رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
رسالة إلى أمريكا
وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...
0 تعليق