مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر

بقلم: سليم عزوز

| 3 نوفمبر, 2024

بقلم: سليم عزوز

| 3 نوفمبر, 2024

مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر

تذكرت أنني اشتريت نسخة من مذكرات محمد فايق، وزير الإعلام في عهد الرئيس عبد الناصر، من معرض الدوحة للكتاب في مايو الماضي، والتي صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية في شهر يوليو/ تموز 2023، بعنوان “مسيرة تحرر”، دون أن أطالعها، فقررت أن أعكف على قراءتها!

فايق لم يكن فقط وزيرا للإعلام (أو الإرشاد القومي)، ولكنه في الوقت ذاته كان من الضباط الأحرار، الذين قاموا بما كانوا يطلقون هم عليه “انقلاب الجيش”، أو “حركة الضباط”، والتي انتهت إلى تسميتها بثورة يوليو، مع خلاف حول من أطلق عليها ذلك، فليس مقطوعاً بأن سيد قطب هو صاحب هذه التسمية، وهو الذي كان متحمساً لها أشد الحماس، لدرجة أن يؤيد إعدام اليساريَّين خميس والبقري، وهما من ضحاياها.

وقليلة هي كتابات هذه الأيام التي تحاول إنصاف الرجل، والنظر إلى تاريخه، من حيث إنه شهد تطورات، فلم يكن في نهايته كما كان عليه في بداية حياته، وقد أصبح جزءاً من حالة الاستقطاب السياسي، التي وصلت إلى حد اتهام أي مختلف مع السلطة الحاكمة لمصر بأنه “إخوان”. وبعد أن صار الاتهام نكتة لأنه وُجّه ضد من يُعرف أنهم ليسوا كذلك، صار الاتهام هو التعاون مع جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، وهو الاتهام الذي وُجه ليساريين ومسيحيين أيضاً!

آفة مراحل الاستقطاب أنها لا تؤهل لأي دراسات جادة، والتاريخ تلزمه الجدية الصارمة عند دراسته، فالأمر كله يتحول خلالها إلى ما يشبه “النقوط” في الأفراح الشعبية. ومن حسن حظي أنني قرأت عن سيد قطب في غير هذه المرحلة، وبما يمكّن من فهم التحولات في مسيرة الرجل، التي لم تكن حياته خطاً واحداً؛ فقد انتقل من حافة الإلحاد إلى اليقين التام، فأصبح أديب الدعوة، وأحد مفكري الإسلام الكبار. وأجد شيئاً جاداً من هذه المسيرة ما كتبه الأديب اليساري سليمان فياض من قريب عنه، وهو الذي ضحى بحياته من أجل فكرته.. بيد أن صاحبنا محمد فايق قضى في السجن عشر سنوات، بدون قضية!

معركة مراكز القوى:

فالإضافة المهمة في قصة حياة محمد فايق، ليست في أنه كان من الضباط الأحرار، ولكن في أنه كان من “الوزراء مراكز القوى” (بحسب دعاية السادات وماكينته الإعلامية ضدهم)، وقد “تغدى بهم” قبل أن “يتعشوا به”. ولهذا، فلم أقرأ مذكراته من بدايتها لنهايتها كما هي عادتي في القراءة، ولكني تنقلت بين فصولها، وكانت البداية بالفصل الخاص بأزمتهم مع السادات في بداية حكمه.

وقد قرأت عن هذه المرحلة ما جعلني أرى أزمة الرئيس محمد مرسي في أنه لم يقرأ عنها، كما أن كثيرين لم يهتموا بدراسة هذا الصراع على السلطة، وقد اختزلوها فيما جاء في فيلم “السادات” من بطولة الفنان أحمد زكي، والفيلم اختزل الموضوع كله في عبارتين؛ الأولى اتهام السادات لهم بالغباء السياسي عندما قدموا استقالاتهم لإحداث فراغ دستوري، فقبلها في الحال، والثانية عندما سأل قائد الحرس الليثي ناصف عن توجهه في هذه المعركة، فأجاب: مع الشرعية يا ريس!

لعل سؤالاً كهذا وجهه الرئيس محمد مرسي إلى قائد حرسه الفريق محمد زكي، ولعله تلقى الإجابة نفسها، وغاية ما خرجا به من هذه الأزمة هو ما جاء في الفيلم.. “أنت مع مين يا ليثي؟. مع الشرعية يا ريس!”، فنحن أهل عناوين لا متون!

والأزمة أن الجميع لم يهتموا بدراسة صراع السادات مع مراكز القوى، لأن أحداً ليس مستعداً أن يقر للسادات بالعبقرية، وقد تم اغتيال الرجل، وقد كثر كارهوه وقل محبوه، حتى من الساخطين على مراكز القوى هؤلاء، بل ومن الذين يمتد كرههم لمرحلة حكم عبد الناصر ذاتها؛ فحتى السادات نفسه لم يكن مهتما بإطالة أمد الذكرى بعد نصر أكتوبر، وقد أورد الصراع في قصة حياته “البحث عن الذات”، وإن أطلق على هذه الأحداث “ثورة التصحيح”، وأطلق اليوم (15 مايو) على عدد من منشآت الدولة، مثل كوبري 15 مايو، ومدينة 15 مايو، فضلاً عن أن جريدة الحزب الحاكم أطلق عليها “مايو”، فقد بدت بعد السنوات الأولى شأناً خاصاً لكاتب السادات المقرب موسى صبري!

هيكل ومراكز القوى:

وفي ذكراها السنوية كان موسى صبري يتذكرها، ويكتب مقاله الافتتاحي بجريدة “الأخبار” بوصفه رئيساً لتحريرها، وأصدر كتيباً عن تفاصيلها، كما تحدث عنها بإسهاب في مذكراته “50 عاماً في قطار الصحافة”، ولعل السبب في هذا أن موسى صبري كان يرى فيها معركته التي تجلى فيها إخلاصه لرفيقه السابق في السجن، أنور السادات، وانتصر بموقفه على محمد حسنين هيكل، الذي تأخر في الكتابة، قبل أن يكتب ست مقالات ضد مراكز القوى من النوع طويل التيلة!

وقد سأله السادات عن السبب في تأخره في تحديد موقفه كتابة، فخرج من لسانه ما صدره على أنه مزحة، وهو أنه انتظر ليعرف من فيهما سيهزم الآخر، لكن السادات أسرّها في نفسه ولم يعتبرها من باب المزاح، فالمرء مخبوء تحت لسانه. والعهدة في ذلك على موسى صبري، وهي رواية مجروحة لأنه لم يكره أحداً في حياته كراهيته لهيكل، أو الكاتب الأوحد؛ كما كان يسميه!

وبعيداً عن رواية موسى صبري، فقد كان بين هيكل ومراكز القوى، أو من يُطلَق عليهم رجال عبد الناصر، وداً مفقوداً، لكن عبد الناصر كان يعرف كيف يدير الصراع بين رجاله، فيضع كل فرد في مكانه، مع اختلاف مشاربهم، وفي سلطته يجمع بين أصحاب التوجهات السياسية المختلفة، وبين أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ينحازون للاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي، في حين أن مبارك كان يدير الصراعات بالوقيعة بين رجاله، حيث كان التوجه السياسي آخر ما يشغلهم، والصراع بينهم على النفوذ، ومن يكون الأقرب للرئيس من دائرته المحيطة به!

ولا شك أن هيكل كان كاهن الفرعون، وكان هو أقرب الجميع إلى عبد الناصر، ولعله لهذا كان الود المفقود هو عنوان العلاقة بهم، ويقال إنه في هذه المرحلة كان السادات هو الأقرب له في دائرة الرئيس عبد الناصر!

ويتهم محمد فايق هيكل بأنه حرض السادات عليهم، وأوعز له بالتخلص منهم، لأنهم إذا استمروا في السلطة وانتصر السادات على إسرائيل، فالنصر سيعود إلى رجال عبد الناصر، وإذا هُزم فسيكون هو من هزم!

الإنكار:

ينكر محمد فايق أن يكون هناك صراع على السلطة، بل ويقر بسلطة السادات في اختيار مساعديه وأن يقيلهم جميعاً، وأن أحداث مايو هي من تأليف السادات، وهو من فبركها، ووصلت فبركته حتى في اختيار الذكرى، لأن بداية الأزمة كانت في 13 مايو، ولا يعرف الوزير محمد فايق لماذا اختار السادات 15 مايو ليكون هو ذكرى ثورته؟.

لن ننتظر مذكرات أخرى تصدر في هذا الصدد، لأن مذكرات فايق هي آخر العنقود، فليس هناك من عناصر هذه المرحلة من هم على قيد الحياة إلى الآن غيره، وقد مر على هذه الأزمة أكثر من نصف قرن (مايو 1971)! وإن كان مَن تكلم من ضحايا هذه الأزمة أنكروا ما قيل جملة وتفصيلاً، فقد أنكروه في المحاكمة، وأنكروه بعد خروجهم من السجن، وواصلوا الإنكار بعد اغتيال الرئيس السادات!

أكان السادات يبحث عن زعامة، فتصرف على طريقة عبد الناصر مع حادث اغتياله في المنشية، وهو حادث لم يكن مسرحية تماماً، كما أنه لم يكن حقيقياً تماماً، أم إن “مراكز القوى” وقد فشلت خطتهم، أرادوا أن يتخلصوا من الجريمة، بدلاً من اتهامهم بالغباء السياسي؟! ولا شك أنهم مثلوا عنواناً للفشل، وقد كانوا الدولة المصرية في مواجهة شخص رئيس الدولة، من وزير الحربية إلى وزير الإعلام، ومن وزير الداخلية إلى وزير شؤون الرئاسة، ومن رئاسة جهاز مباحث أمن الدولة، إلى رئاسة جهاز المخابرات العامة والحربية!

لا بأس، لقد كانوا أبرياء تماماً، لكن ما يحول دون تسليمنا بذلك، هو أنهم خرجوا على الأصول، فمن يريد الاستقالة فسبيله أن يرسل استقالته لصاحب الاختصاص الوظيفي في قبولها أو رفضها، وهو في هذه الحالة رئيس الجمهورية، لا أن تعلَن من خلال نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون وفي وقت متأخر من الليل، وأن تكون هذه الاستقالات جماعية، فهل هذا يعقل ممن تعلو البراءة وجوههم؟!

لقد أقدمت على المذكرات ولست متعاطفاً مع الرجل، لكني في مواقع كثيرة أكبرته، لاسيما عندما رفض الاعتذار للسادات مقابل الافراج عنه بعد أن قضى في السجن خمس سنوات، وقضى العقوبة كاملة؛ عشر سنوات، ليخرج قبيل اغتيال السادات بثلاثة أشهر، فيُعاد اعتقاله ضمن قرارات سبتمبر الأسود!

كان لابد من هذه الاستراحة التاريخية هروباً من الواقع الأليم!

1 تعليق

  1. مسلمة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

    معظم من كتب عن سيد قطب ناقدا أو متهما ركز في كثير من الأحيان على سيد وفكره من خلال ما كتبه آخرون.. إن هؤلاء الذين ركزوا على بعض الجوانب “الملتبسة” في كتابات سيد، وغضوا النظر عن أدبياته الرائعة ونصوصه الإبداعية والتجديدية وروحه الثورية ومواقفه التي دفع حياته ثمنا لها.. هؤلاء ظلموا سيد، وشاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين سيّد، ولم يخدموا بذلك سوى أنظمة الفساد والاستبداد وتيارات التغريب

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...