عندما ضحى الوزير بنفسه

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 11 يونيو, 2023

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 11 يونيو, 2023

عندما ضحى الوزير بنفسه

من يقرأ تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يرى أنها قامت على مجموعة من الأسس والمبادئ، التي جعلتها من أعظم الحضارات الإنسانية؛ ومن هذه الأسس اهتمامها بالعلم النظري والتجريبي، واستنادها إلى الفكر والمعتقد القائم على الأدلة النقلية والعقلية، واللغة، والقواعد الأخلاقية والسلوكية، وانفتاحها على الحضارات الأخرى.
لقد اهتمت الحضارة الإسلامية منذ الوهلة الأولى بالعلم؛ فقد كانت أول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي كلمة (اقرأ)، الداعية إلى النظر والتفكر والتأمل، والتحليل المنطقي والبحث، والتنقيب عن المعرفة في كل موضوعات العلوم المختلفة الدينية والكونية؛ فظهرت المساجد في الإسلام لتؤدي، بالإضافة إلى دورها الروحاني، وظيفة أخرى لها كمراكز تعليمية تقوم بدورها في تعليم المسلمين أمور الدين والدنيا. ثم ظهرت بعد ذلك المدارس الأهلية والمدراس والمراكز التخصصية، ولعل من أبرزها المدارس النظامية، وهي التي أسسها الوزير نظام الملك الطوسي في بغداد، وكان ذلك سنة 459هـ؛ والجدير بالذكر أن المدرسة النظامية هذه كانت أول مدرسة تخصصية نوعية في تاريخ الدولة الإسلامية، ولقد سميت المدارس النظامية، أو التعليم النظامي، بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها نظام الملك؛ لذلك يعتبر نظام الملك أول “وزير للتعليم” في التاريخ الاسلامي.

اهتم الوزير “نظام الملك” بنشر المذهب السني بين المسلمين، لكي يواجه المذهب الباطني الذي كانت الدولة الإسلامية تعاني منه على كافة الأصعدة.

فعندما تولى السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) السلطنة أصدر قرارا بجعل الحسن بن علي بن إسحاق (نظام الملك) الطوسي وزيرا، وكان ذلك عام 455هـ، فقام هذا الوزير بإنشاء المدارس النظامية، وقد رأى ضرورة إعادة صياغة ما يطرح في نطاق التدريس على أصول مرتبة ذات منفعة للطلبة والدارسين، فقد قام بإنشاء المدارس العديدة في أنحاء البلاد، وأوقف عليها الاوقاف، واختار لها المدرسين الأكفاء. وأصبح التركيز الأسمى متجها لتعليم المسلمين أمور الدين والعبادة، وتعريفهم بالتكاليف الشرعية؛ لأن معرفة المسلمين لأمور الدين والعبادة وأمور الشرع هي أسمى الغايات وأعظم الأهداف. و قام الوزير نظام الملك باستحداث “برامج” لإعداد المسلم إعدادا صالحا؛ بحيث يقوم بإصلاح نفسه أولا ثم إصلاح غيره؛ وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 ومن ثم دعا الوزير نظام الملك المعلمين والمتعلمين لشحذ الهمم، وحثهم على التفكير والإبداع والابتكار، وذلك عن طريق البحث والتجريب، الذي سيؤدي إلى إثراء العملية التعليمية وتوفير أجواء علمية مشوقة ترنو لتوسيع آفاق المتعلمين؛ وذلك من خلال الانفتاح على حضارات وثقافات الأمم الأخرى. وسعى لتخريج كوادر متقنة ومدربة في المجالات التي تحتاجها الدولة في ذلك الزمان في “سوق العمل”، وتوفير عدد من الموظفين للعمل في الجهاز الإداري للدولة.
وقد اهتم الوزير “نظام الملك” بنشر المذهب السني بين المسلمين، لكي يواجه المذهب الباطني الذي كانت الدولة الإسلامية تعاني منه على كافة الأصعدة.
ولقد أنفق الوزير نظام الملك بسخاء من ميزانية الدولة على تلك المدارس، ووفر لها المخصصات المالية الضخمة، فقد قُدرت أوقاف مدرسة نيسابور بعشرة ألاف دينار، وفي هذه المدارس كانت لطلاب العلم مساكن خاصة، وكانت لكل طالب غرفته الخاصة به، وكانت فيها المكتبات الشاملة التي تحوي آلاف الكتب من أجل الاطلاع والاستزادة من العلوم وإثراء العملية التعليمية.
وقد تم إنشاء المدارس النظامية في المدن والمراكز العمرانية الرئيسة المكتظة بالسكان؛ وذلك حتى يكون لها تأثير عالٍ على الأفراد المتعلمين، وتقوم بدورها في التوجيه الفكري والعلمي على أكمل وجه ممكن، ومن هذه المدن: بغداد، وبلخ، ونيسابور، وهراة، وأصفهان، والبصرة، ومرو، والموصل وغيرها.

إن المدارس النظامية في الحضارة العربية الإسلامية قد لعبت دورا مهما في نهضة الأمة وبناء الجيل الجيد

أما في جانب اختيار المعلمين والأساتذة، فقد كان نظام الملك يختار الأكفاء ويغدق عليهم الأموال الكثيرة، حتى يتفرغوا للعلم والدراسة ونشر العلوم بين الناس، وكان يقوم بإرسالهم إلى الأقاليم المختلفة، ليقوموا بدورهم ورسالتهم المكلفين بها من الدولة. ومن هؤلاء العلماء الذين تم اختيارهم الإمام حجة الإسلام الغزالي، فقد اعترف به نظام الملك، وشهد بفضله وعلمه وورعه، وقرَّبه إليه، وأوكل إليه التدريس في مدرسة بغداد.
وبهذا نستطيع أن نقول: إن المدارس النظامية في الحضارة العربية الإسلامية قد لعبت دورا مهما في نهضة الأمة وبناء الجيل الجيد، فقد جاءت هذه المدارس في وقتٍ كانت فيه الأمة الإسلامية بأمس الحاجة إليها، إذ أُنشِئت إبان الحروب الصليبية على الأمة الإسلامية.
فالدولة التي لا تستشعر خطورة التخبط في التعليم هي دولة تفتقر إلى الرشد في الحكم والإدارة، وعليها أن تتدارك نفسها قبل فوات الأوان، ولنا في الوزير نظام الملك قدوة حسنة في التفاني في خدمة الأمة والدولة، رغم أن نشاطاته كانت تُقابَل بنوع من المقاومة من قوى الشر والفساد، وعلى رأسها أتباع فرقة الحشاشين الباطنية، الذين كان من أشد الأمور التي يخشونها بناء جيل واعٍ، ولذا سعوا إلى قتل العقل المدبر لهذة النقلة النوعية في المنظومة التعليمية، وهذا ما حصل بالفعل، فقد خسر العالم الإسلامي وزيره نظام الملك بحادثة اغتيال لعينة قام بها أعداء النهضة ومناهضو الوعي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...