لا تكن على صواب طوال الوقت
بقلم: كريم الشاذلي
| 29 ديسمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: كريم الشاذلي
| 29 ديسمبر, 2023
لا تكن على صواب طوال الوقت
إن تحقيق الصواب دائماً قد يؤدي إلى عواقب سلبية، فالتعامل السليم مع الأخطاء يمكن أن يكون أكثر فعالية. يجب أن يكون الفرد مستعدًا لتقبل نفسه الناقصة والتعامل مع الحياة بشكل أكثر واقعية. في هذا المقال، سنتناول أهمية عدم الحاجة إلى أن يكون الإنسان على صواب دائماً، مستعرضين آراء العلماء والنفسيين حول هذا الموضوع.
الفهم النفسي وتأثير الأخطاء والتفاعل معها
ولعلك سترفع حاجبك مستنكراً فلسفتي الزائدة، وأنت تؤكد كونها نصيحة جوفاء، إذ إنها حقيقة واقعة، وأنه كان من الأجدر بي أن أنصح الناس بفعل الصواب، إذ إنهم -ودون نصيحتي تلك- سيفعلون الشيء الخاطئ!
وهذا يا صاحبي، أبعد موضع من مربط فرسي، فمأساة كثير من الناس، إذا فتشت في النفوس جيداً، ليست في أنهم يفعلون الشيء الخاطئ وكان عليهم فعل الصواب، وإنما في أنهم لا يتعاملون مع قرارتهم الخاطئة بشكل سليم.
هوس فعل الصواب دائما، يُسلم غير قليل منا إلى أحد شيئين، وربما كليهما؛ الأول نقد ذاتي عنيف وقاس للنفس، وقد يصل إلى تكوين الواحد منا صورة عن نفسه لا تدعم ثقته في مشوار حياته؛ والثاني محاولة إخفاء العيوب والأخطاء ومداراة الناس، وعيش حياة مصطنعة، مضيئة من الخارج بيد أن باطنها مهزوم. وعليه، فإن نصيحتي بعدم فعل الصواب دائماً هي نصيحة بأن تدرك وتعي حقيقة الأشياء، ومن ثم تتبنى فلسفة قادرة على مدِّك بالقوة والحكمة الكافيتين لتمضي في الحياة ثابتاً، مدركاً أن للخطأ فوائده، وللعثرة قيمتها، وللتجربة ثمنها.
بعد أبحاث استمرت لعقود في تتبع أفكار الناس ومعتقداتهم، وبعد سنين قضاها متنقلاً بين مدارس علم النفس، وبعد مُضي أكثر من نصف قرن على طرح نظريته في العلاج النفسي؛ أكد الدكتور “ألبرت إليس”، أحد أهم علماء النفس في القرن الماضي، أنه وبعدما فطن أن مآسي الناس في الحياة تنبع من أفكارهم، وجد أن عليهم إن أرادوا علاج نفوسهم أن يعالجوا ما في أذهانهم أولاً، مؤكداً أن ثلث الأفكار التي تحاصر الإنسان وتجعله تعيساً بائساً تتمحور حول فكرة “يجب أن أكون على صواب وإلا فحياتي ستكون عبارة عن مأساة”! لافتاً النظر إلى أن الشخص العاقل، المتزن، السليم، يجتهد في أن يكون على صواب، ويحزن حينما يقع في الخطأ، لكنه أبداً لا يطلب استحقاقاً بأن يكون على صواب طوال الوقت، ولا يرى العالم بائساً حين يقع في الخطأ، لا يذبح نفسه حين تزل قدمه، أو يطيش سهم تفكيره.
الشخص المتزن لا يصنف نفسه بمعايير كلية، هو شخص يجتهد في فعل الصواب لكن قدمه قد تنزلق، وحينها لا يقوم بتقييم نفسه من منطلق “أنا سيئ أو جيد”، وإنما “هذا الفعل جيد أو سيئ”.. وعليه، هو يندم ويحزن، لكنه يهبُّ من فوره لإصلاح الخطأ الذي وقع فيه، دون أن يعمم هذا السوء على نفسه بالكلية. وهذا كلام قد تراه بديهياً، لكنه للأسف غير واضح في أذهان كثير من الناس.
تأثير الثقافة والديانة – وأهمية التجربة والتطور
وبالرغم من أن الإسلام صنع معياراً لتفاضل الناس فيما بينهم، قائم على تصحيح الأخطاء وتعديل المسار، أو ما سماه “التوبة”، مع التأكيد على أن الطهر الكامل والصواب المستمر أمر مستحيل، بل إنه لو تحقق لانتفى أصلاً سبب خلق الإنسان، وأن المسلم إذا لم يخطئ، ويقع، ويذنب، فالبديل هنا ببساطة أن يستبدل الله سبحانه وتعالى به صنفاً آخر غير مثالي، ليس على صواب طوال الوقت، صنفاً يُذنب ويستغفر باستمرار!. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم غيركم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم”.
هذه الرسالة تعني ببساطة أن تتقبل نفسك الناقصة، مع بذل جهدك في تحسينها، أن تنشغل بالخطوة القادمة بعد الاستفادة من الخطوة الماضية دون الوقوف عندها، ألّا تحبس نفسك في فكرة خاطئة نابعة من طهر كاذب، ومثالية غير متحققة، وغاية مستحيلة.
الحياة والناس ونفسك لن تستطيع أن تتعامل معهم بشروطك الشخصية، أنت لست في مطعم وتنتظر وجبتك المنتقاة، للقدر قواعده التي تمضي علينا، وعلينا أن نتعاطى مع هذه القواعد دون أن نعارضها، أو نشتكي منها. وأهم هذه القواعد، ألّا تكون على صواب طوال الوقت! أن تتقبل نفسك دون شروط.. ولا يعني هذا أن تدللها وتسمح لها أن تستمرئ الخطأ بحجة أننا مخطئون، بل أن يكون منك -كما قلنا- ندم وتوبة؛ وضيق الصدر حالَ الخطأ أمر لا بد منه، وهو لوم وتقريع يخوّف الضمير من سوء السلوك، لكنه لا يصنع للروح مشنقة، ولا يسجن النفس في سجن العزلة والانكسار.
لقد بحثت كثيراً في كتب المفكرين، والفلاسفة، بل وفي نظم التربية والتعليم، فلم أرَ منهجاً واحداً يحث الناس على الخطأ إلا الإسلام!
لا، ليس في العبارة ثمة تضليل.. فالإسلام يحثك على الاجتهاد، والتطور، والعمل، وشق طرق جديدة، واكتشاف أسرار الحياة، مطَمْئناً من يفعل ذلك أن الخطأ هنا محمود وله أجر، شريطة أن تجتهد بصدق ودراية.
نعم، ستأخذا أجراً على كل خطأ غير مقصود كان وقوعك فيه نتيجة حركة غير موفقة، لأن الحياة ببساطة لا تتقدم إلا بهؤلاء الذين يطرقون الأبواب المغلقة، ويمضون في الطرق الموحشة، ويحاولون اكتشاف جديدٍ يعمرون به الأرض، وينفعون به العباد.. ولن يحدث هذا إلا بالتجربة، والتجربة قد يأتي منها الخطأ كما يأتي الصواب. وغالب مناهج التربية لا تتسامح مع الخطأ، وأقصى ما تستطيع تقديمه للمخطئ هو تفهُّم خطئِه، غير أن الإسلام يحترم الحركة، ويقدِّر الاجتهاد ويعطي لصاحبه أجر اجتهاده الخاطئ!
لا أظن ما قلتُه جديداً كمعلومة، لكنه غريب في نفوسنا، فنحن للأسف لا يهمنا شيء مثل أن نظهر على صواب دائما، أن نبدو على ما يرام طوال الوقت. وعليه، فإننا نُضيِّق واسعاً، ونمضي بحذر، ونبكي في لوعة، ونجلد ذواتنا، ونعيش تعساء؛ ولطالما اهتزت ثقة الواحد منا بنفسه لأنه عاش سجين فكرة خاطئة، وكثيراً ما وضعنا الأغلال في أعناقنا طواعية، وأسأنا الظن في أنفسنا وفي الناس، بل وفي رحمة الله وحكمته.. والحل لن يكون إلا بإعادة النظر في قناعاتنا، وأفكارنا، وفهم علاقتنا بأنفسنا.
فالله يا صاحبي يحبك ويثق بك رغم أخطائك.. فلماذا تسعى إلى أن تكون على صواب طوال الوقت؟!
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق