أنا أطول منه!

بواسطة | فبراير 12, 2024

بواسطة | فبراير 12, 2024

أنا أطول منه!

تناول المقال قصة طفولية تربط بين رغبة في الاختيار والقيادة في الحروب الحديثة، معتبرًا التغير في المقاييس.
تأملات ترافق طيّات النضج والقيادة في زمن الفوضى.

الطول في القيادة..! من الطفولة إلى النضج

كنا نقف على رؤوس أصابعنا في نهاية المرحلة الابتدائية أمام أستاذ الرياضة، ونهتف بصوت رفيعٍ قد شابه بعض البحّة والرجولة: “أنا أطول منه”، ويلكز بعضنا بعضًا بكوعه قائلاً لمن هو إلى جانبه: “بل أنا أطول منه يا أستاذ”.

كنا نفعل ذلك من أجل أن يختار أطولَنا هذا ولو بالاستطالة المزيّفة هذه من أجل لعب كرة السلة، أما من كانوا يرغبون أن يلعبوا كرة القدم فلم يكونوا بحاجة إلى هذا الاستعراض الطفولي في التطاول! وكان الأستاذ يُمرّر عيونه الفاحصة علينا واحدًا واحدًا ليكتشف من كان ذا طول حقيقي ليختاره لهذه اللعبة، وكانت رُكَبنا في هذه الإمرارة من عيون المدرّس تصطفق خوفًا وترتعش لمجرد  أننا نخشى أن نُكتشَف، وما أسهله من اكتشاف، وبالتالي نُستَثنى ولا نحظى بشرف الاختيار لهذه اللعبة المشتهاة.

هذا المنظر ذاته، الخوف من اكتشاف الطول الحقيقي للواحد منّا، والخوف من الاستثناء للفوز بهذا الشرف لكن بصورة أخرى، في زمان مختلف ومكان غير هذا، كان يحدث مع الصحابة صغار الأعمار، الذين كان بعضهم يطاول صاحبه من أجل أن يحظى بشرف الاختيار للدخول في معركة بدر.

أتذكّرُ ذلك الماضي السحيق وأبتسم ابتسامة حزن وأمل، لقد كان الاختيار يُعَدّ يومئذ شرفًا.. واليوم، والحرب تقترب من يومها الثلاثين بعد المئة، هل ظلّ في القوم من يقف على أطراف أصابعه من أجل أن يُثبِت أنه جدير بخوض هذه المخاضة، والجهاد في هذه الحرب الضروس؟! نحن نعرف أن الحرب لم تُبقِ شيئًا، لم تبقِ شجرًا ولا حجرًا ولا بشرًا، وحتى لو بقي بعض البشر، فإنها لم تبقِ لهؤلاء الباقين سيقانًا من أجل أن يقفوا بها على أطراف أصابعهم.

غير أننا اليوم لا نطلب من ذوي القامات الطويلة أن يدخلوا الحروب ليدفعوا عن أهليهم وأنفسهم الموت، ولكننا نطلب منهم أن يقف الواحد منهم على رؤوس أصابعه فيوقف هذه الحرب التي لا ترحم، أو يقف على تلك الرؤوس فيسمح للطعام والدواء أن يدخل، أو حتى يقف على تلك الرؤوس لتلك السّيقان الطويلة ويصرخ في المحافل: كفى سُعارًا أيها العالَم، كفى جنونًا، كفى خذلانًا، أوقفوا هذه المجزرة التي لا تشبع!

اليوم لم يعد هناك من يقول أنا أطول منه، ولا أحسن منه، ولا أقوى منه، لم تَعُد هذه الدوافع الإيجابية التي تقود المرء إلى القيم العُليا من المروءة والنخوة والمبادرة والشجاعة موجودة عند ذوي القامات الطويلة، بل حلّ محلها التخوين والتسفيه والتتفيه، والتريّث وعدم الانجرار وراء العواطف بدعوى التعقّل، وأن الأمور لا تُدار بهذه الطريقة، وأن الإبل لا تُورد يا سعدُ هذه الموارد، كل ذلك يقولونه ولا يحركون ساكنًا، والدماء تنزف وتسيل من الأجساد كلها حتى تصبح أنهارًا فبحارًا فطوفانًا يُغرق البلاد والعباد.

اليوم لم يعد أحد من ذوي القامات الطويلة يقول أنا أطول منه، ولكنه يقول أنا أعقل منه، أنا أَبْصَرُ بالأمور، أنا أَقدَرُ على قراءة المستقبل واستشرافه، أنا أُريد أن أحمي ساقَيّ من أن تتكسّرا، أو أن تسيل المياه من تحتهما دون أن أدري، أنا لا أريد أن أكون أطول منه في أي حال من الأحوال!

لكم الله يا أهل غزّة، لا تنتظروا من ذوي القامات الطويلة أن ينصروكم أو ينتصروا لكم، أتعرفون لماذا؟ لأنهم أقزام، وما كان القِزْم ليصبح طويلاً مهما حاول، ولا أن يكون عاليا مهما توهّم. ولأن قامة أصغر طفلٍ رضيع فيكم أطول من هذه القامات الطويلة الفارغة كلها:

عُـدّ الـمـلايـيـنَ لـكـنْ جـوفُ أفـئـدةٍ   هي الفراغ، وهذا الرمح من قصب

1 تعليق

  1. محمد

    وسوف تدور الايام ، وساقان لا تقويان على صلاة الفجر ، وجسد لم يعتد الجوع وتقلب الحال ، ليس جسدا قادرا على الجهاد في سبيل الله ، والجهاد شرع للنصر لا للقتل ، لله ذركم يا اهل غزة 💔

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...