إنهم يتحوّلون إلى رموز

بقلم: أيمن العتوم

| 6 مايو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: أيمن العتوم

| 6 مايو, 2024

إنهم يتحوّلون إلى رموز

لا تقاس عظمة الخالدين بأعمارهم، ولكن بأفعالهم، فإنّ كثير العمر مثل قليله إن لم يكن فيه ما أضاء به صاحبُه ظلمة، أو بنى فيه مجدًا، أو سلك فيه دربًا غير ما سلكه الآخَرون؛ وانظر إلى هؤلاء الشهداء الثلاثة الذين آتي لكَ على طرف من أخبارهم.

استُشهِد معاذ بن جبل في طاعون عمواس سنة 18 للهجرة، وكان عمره وقتئذ ثلاثة وثلاثين عامًا على بعض الروايات، فماذا فعل بهذا العمر القصير الذي لو أسقطْته على أعمار بعضنا اليوم لوجدتَ أنه ضاع في غير جدوى، ومرّ مرور الهباء؟! لقد صنع ما لو وُهِب أحدنا مئات السنين لأعجزَه ما سطّره في هذه السنوات القلائل.

شهد الحروب كلها، فما تخلّف عن معركة، فكانت أيامه أيام جهاد وجلاد وقتال، وعَلِم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لم يعلمْه سواه ولم يَفْقَهْه، فسُمِّي لذلك إمام الفقهاء وكنز العلماء، وأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه فقال عنه: “أَعْلَمُ أُمّتي بالحلال والحرام”؛ وكان أحد الأربعة الذين جُمِع القرآن على أيديهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم، فحاز بذلك شرفًا لم يحزْه سواه، وقال عبد الله بن مسعود: “إن معاذ بن جبل، كان أُمَّةً قانتًا لله حنيفًا، ولم يك من المشركين”. ثم ساح في بلاد الله كأنه العلَم الذي يُهتدى به، فكان في اليمن، وفي حمص، وفي فلسطين، وفي مواضع الجهاد في الشام.. ثم ماذا؟ طعنه الطاعون وهو في أوائل الثلاثينيات ليتحوّل إلى رمز، وليقول لمن خلفَه إنّ أعمارنا تُعدّ بأعمالنا، فمَن حَسُن عمله امتدّ عمره.

واستشهد جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، وهو في الثالثة والثلاثين من عمُره، فكيف مضى هذا العمر القصير؟! نشر به الإسلام في الحبشة، وبحُسْن خُلُقه وفصاحة لسانه جعل ملكها النصراني يسلم، وبكلماته الطيبات حمى جماعة المسلمين من الانخطاف أو الاغتيال أو الذبح، ولمّا عاد من الحبشة قبّله الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين عينيه، والتَزَمه وضمّه واعتنقه، فأي شوق من النبي صلى الله عليه وسلّم إلى هذا الفتى الهاشمي النبيل جعله يفعل ذلك؟!

وأوانَ استشهاده في مؤتة عرف الناس في المدينة الحُزن في وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقصة استشهاده لو كانت في غير تاريخ المسلمين لتحوّلتْ إلى أسطورة تُروى، وقد جاءت في موقف لا يقدر عليه إلا العظماء المخلَصون؛ ثم ها هو يتحوّل إلى رمز في تراثنا الإسلامي، رمز كأنه النار الهادية في ليل السارين الذين يبغون خلاص بلادهم، رمز للذين يُقبِلون على الشهادة كأنها الوِرْد العذب من أبطال المقاومة اليوم في غزّة. إنها ثلاثة وثلاثون عامًا هي كل حياة هذا الصحابي الاستثنائي، ولكنها لا تنتهي في حساب الأعمار حتى ينتهي وجود البشر على وجه هذه البسيطة، وإنها ليست كأيّ ثلاثة وثلاثين أبدًا.

واستُشهد مصعب بن عمير في معركة أحد وهو ابن ثلاثة وأربعين عامًا، وهي أعوام تجاوزها اليوم شباب لا يُعدّ ولا يُحصى من أبناء أمتنا ولم يفعلوا لها شيئًا، فماذا فعل مصعب؟! لقد نشر الإسلام في بيوتات المدينة، فلم يبقَ بيت إلا ودخله هذا النور. وكان أكثر شباب قريش غنًى وجمالاً وتعطُّرًا، فلما استشهد لم يجدوا له كفنًا يُغطّي جسده كله، فغُطِّي رأسه به، وسُتِرَت قدماه بالإذخر، ولمّا مرّ عليه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم مُسجّى بعد الشهادة قرأ فيه قوله تعالى: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلًا}. فأيّ شهادة من نبي على لسان الله في صحابيّ أصدق من هذه؟!

وها هم؛ تحوّل معاذ بن جبل إلى رمز السياحة في الأرض دون الركون إلى الأرض ورغد العيش من أجل غاية نبيلة وهدف عظيم، ومات في سبيلهما. وتحوّل جعفر بن أبي طالب إلى رمز الفداء والتضحية ورفع الراية ألا تسقط مهما كلف ذلك من ثمن. وتحوّل مصعب بن عمير إلى رمز الفتى الجميل الوسيم الذي يُضحّي بالغنى والترف والسعادة الآنيّة من أجل سعادة لا تنتهي، وقد كانوا رموزًا من الشباب وقضوا وهم في هذه السن.

واليوم، ما تظنون في شباب غزّة المقاومة؟ إنهم شباب يعرفون هذه السِّيَر العَطِرة، ويدركون عمق معانيها، وسُمُوّ غاياتها، وشرف مقصدها، وعِظَم الأجر المترتّب على تنسُّمها، فتراهم يسيرون في الطريق ذاته، شباب كمصعب ومعاذ وجعفر لهم أحلامهم وطموحاتهم ولديهم مشاريعهم وأموالهم، ولكنهم تركوا ذلك الفاني من أجل الباقي، وخلّفوا وراءهم حياتهم القصيرة، من أجل حياة أبدية، إنهم حقّا يتحولون إلى رموز.

أيمن العتوم

صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
Loading...