اعتياد الموت

بواسطة | أكتوبر 23, 2023

بواسطة | أكتوبر 23, 2023

اعتياد الموت

كيف يكون شكل الموت؟! إنه ثوب أخذ مقاس كل بشري يدبُّ على وجه الأرض، ثم ها هو ينتظر اللحظة المقدَّرة من أجل أن يرمي عليكَ ذلك الثوب، ليرحل بك إلى عالم الأرواح، لا أحد من البشر لم يُؤخذ مقاسه، ثم لا أحد ينجو من أن يلبس ذلك الثوب.. في غزة مثلا، كان صانع الأثواب قد اختار لهم أجملها، لوّنها بالدم، اللون الذي يدلّ على أن صاحبه مات كريمًا مرفوع الرأس، وزيّنه بالورد والحِنّاء، قبل أن يلبس الثوب راضيًا مطمئنًّا.
كم منا نحن الذين ننتظر أنْ يُلبِسنا الموت ثوبه من يخشى ذلك! إننا قد نكره الثوب، نكره ميعاده، نكره التوقيت الذي يحلّ فلا يكون منه مهرب، هكذا هي طبيعة البشر… في غزّة يبدو الأمر مختلفًا، إنهم مُسربَلون بالرضا قبل أنْ يُسربَلوا بالدم، إنهم ينتظرون الموت في كل لحظة، ومع ذلك لا يخشون ولا يقلقون ولا تصيبهم الرهبة، وهم يرونه قادمًا من الغمام، أو من بين تلك الأدخنة السوداء ناصعًا ببياضه الشفاف ليلفّهم خلف بياضه ويرحل بهم إلى السماء، حيث تنتهي كل هذه الأصوات المفزعة، وهذه العذابات المتكررة، حيث لا وصَبَ ولا نَصب.
ليس اعتيادًا لأهل غزّة ما جعلهم لا يخافون الموت؛ لكنه اليقين، اليقين بأن الروح لها أوان، فإذا جاء أوانها فلا قوة في الأرض تستطيع تأجيل تلك اللحظة، إنه الإيمان الذي يجعلهم يموتون شجعانًا مُقبِلين غير مُدبرين، وكأنهم يُردّدون بيت المتنبّي:
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ .. فمن العار أن تموت جبانا
إنهم بموتهم الشريف يمسحون عارنا نحن، العاجزين أن نفعل لهم شيئًا، ثُمّ عارًا أكبر هو عار أنظمة تنتظر من سيّدها الأمريكي أو من سيّدها الصهيوني أن يسمح لها بأن تُدخِل المساعدات الغذائيّة والدوائية إلى غزّة، إنهم من الذلّ بمكانٍ أن لا يملكوا قرار إدخال الطعام على أرضهم التي يقولون إن لهم السيادة عليها، مع أن الواجب ما ينص عليه قوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا”، بل قوله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى”، وأين يكون التوادّ والتراحم إذا لم يكن في مثل هذه الظروف القاتلة الاستثنائية التي تمرّ بها غزّة اليوم؟!
لقد رضينا منهم أن يكون توادٌّ وتراحمٌ بالدواء والغذاء مع أنه جُهد المُقِلّ، لكنهم حتى هذه لم يفعلوها؛ إذ الواجب أن يكون التوادّ والتراحم بالسلاح قبل الخبز، وبالصواريخ قبل الماء، وبالدبابات قبل المراهم، وبالأفعال قبل الأقوال… ولكنه زمن التخاذل العروبي الذابح:
فإن خُذِلتَ فلا تَعْجَبْ فمِن عَجَبٍ .. أَن تلـتقي بِعُروبِـيـِّيـن ما خَـذَلُـوا
الأَجـدرِيـن نـفـاقًـا في تـعـاملـهم .. والأسرعِين إلى ما كُذِّب الرسل
إنه لعجب أن ترى أخاك يُذبَح أمامك فلا تفعل له شيئًا، وأنت إذا أردت قادر على أن تقلب المعادلة كلها، بل تقلب الطاولة على رؤوس قاتلي أطفالك، وذابحي أبناء جلدتك، والشاربين من دماء إخوتك! أما وأولئك قد تركونا وحدنا في الميدان، ونكصوا على أعقابهم، وارتضوا صمت الذليل، ونظرة الخائف على كرسيه القائم على عبودية لم يمرّ مثلها في التاريخ؛ فإنه يصْدق فيهم قول مالك بن نبي: “لا تصمتْ عن قول الحقّ؛ فعندما تضع لجامًا على فمك، سيضعون سرجًا على ظهرك”.
ولقد صدق المشهد الذي وصفتُه في رواية “اسمه أحمد” حين قلت: “عاودَتْني صور الضحايا ترتسم أمامي في الفضاء الخالي، كان منظر ذلك الذبيح الذي ينام على كتف ذبيح آخر، كأنما يضحك إلى أخيه في اللحظات الأخيرة التي سبقت الموت، وهو يحاول أن يجد مُتّكأً ليموت عليه ما دام الموت حاصلاً على أية حال؛ هل كان الإنسان بحاجة إلى أن يُسند رأسَه إلى كتف من يُحبّ حتى وهو يموت!! هذا المشهد لم يَغِبْ عن ذاكرتي ولن يغيب. أما مشهد الأم المفجوعة التي جثتْ على ركبتيها، وعلى وجهها ارتسمتْ كل المصائب المُعتّقة، ربما في وجهها تجمّعتْ مصائب الأمهات من يوم أن فقدتْ أول أمّ ابنها في أقدم مذبحة في التاريخ إلى اليوم، فكان هو الآخر من المشاهد التي لن تُنسى، كان نهر من الحزن ينساب عبر إحدى يديها التي تتلمّس أول أبنائها الخمسة الذين سقطوا في المذبحة، وقد اصطفّتْ جثثهم أمامها في لوحة تفيض بالبؤس الكوني العميم”.
لكنّه – إلى ذلك كله – لا يأس مع البأس، ولا قنوط مع الإيمان، ولا موت مع إرادة الحياة، وحين ينتهي هذا المشهد البشع، سيتبيّن لكل حيّ من باع مِمّن اشترى، ومن نام ممّن جاهد، ومن هرب وتخاذل ممّن أقدم وقاتل. ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...