التدفُّق في الكتابة (3)

بواسطة | سبتمبر 4, 2023

بواسطة | سبتمبر 4, 2023

التدفُّق في الكتابة (3)

حسنا، دعوني بعد فيض الأمثلة هذه، أُمارس اللعبة إيّاها فأقف على الضفة التي يقف عليها المندهشون؛ أكاد أسمعهم يتهامسون: إن زهيراً بن أبي سُلمى كانت القصيدة تمكث عنده حولا كاملا ينقحها ويدققها، حتى سُمّيت القصائد من هذا النوع بالحَوليّات.. صحيح، لكن ذلك جزء من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، إن القصائد التي تمكث عند الشاعر حولا كاملا هي قصيدة أو اثنتان لا أكثر، تلك القصيدة التي ستكون من المعلقات، ولذلك يعتني بها صاحبها أشد الاعتناء، لكنْ لن تمكث عنده كل قصيدة من قصائده حولا، وإلا فإن هذا الثمانيني الذي سئم تكاليف الحياة سيكون قد عاش العمر الذي عاشه نوح، حتى تكون قصائده كلها حوليّة!.
دعونا نتخيل لو أن صاحبنا المتنبي فعل ذلك، فمعناه أنه كان يتوجب عليه أن يعيش ثلاثمئة سنة بعدد قصائده، في حين أن أشهرها، كالقصيدة الميمية التي عاتب فيها سيف الدولة، لم تمكث في جعبته إلا يومين أو ثلاثة حتى نثرها كما ينثر الفارس الكنانة في وجه ممدوحه المُعاتَب، وغادر!.
إنني ما زلت معكم على ضفتكم، أسمعكم من جديد تتهامسون، انظر إلى (أُمبَرتو إيكو) لقد مكث عشر سنوات وهو يكتب (اسم الوردة)، ولم يكتب في حياته كلها غير ست روايات؛ وهذا (هيرمان هسه) مكث يكتب في (لعبة الكُرَيات الزجاجية) عشر سنوات كذلك؛ حسنا؛ فأنا لم أقل بخلاف ذلك، لكنْ لماذا تستشهدون بهما، ولا تستشهدون بمن كتب الرواية في أقل من ثلاثة أسابيع من كبار الكُتّاب كفيكتور هوجو وديستويفسكي؟! إذًا لا تُقدّسوا الأول ولا ترجموا الأخيرَين، كلاهما له أسلوبه في الكتابة وطريقته في السير في هذه الدرب الغامضة المسماة (الإبداع)!.
هل تريدون مني أن أقف على ضفتكم أكثر؟ نعم. وليكنْ، تقولون: إن (تشارلوت برونتي) لم تكتب غير رواية واحدة في حياتها هي (جين إير) وكانت كافية لتخليدها، وإن (إيميلي برونتي) مثل صاحبتها، لم تكتب غير رواية واحدة في حياتها هي (مرتفعات ويذرنغ)، وأن (مارغريت ميتشل) هي أيضا مثل صاحبتيها، لم تكتب غير روايتها الوحيدة (ذهب مع الريح) ولم تذهب هي مع الريح، إذ خلّدها عملها هذا، حسنا أنا أعرف هذا قبل أن تتهامسوا به، ولكن لماذا لا تستشهدون بآخرين من أصحاب أصحابِ الواحدة، كتب بعضُهم أكثر من ثمانين رواية، مثل (أجاثا كريستي)؟!.
إن دراسة حياة كاتب ما وفَهْم طريقته في الإبداع لا يمكن أن تتم من خلال رواية واحدة مثلما تكون ناتجة عن عدد وفير أو جيد من الأعمال، من أجل هذا ربما اشترط النقاد القدماء كابن سَلّام في (طبقات فحول الشعراء)، والأصمعي في (الأصمعيات)، وابن قتيبة في (الشعر والشعراء) عددا من الشروط حتى يُعدّ الشاعر فحلا، منها: الاقتدار، والتصرّف في الأغراض الشعرية فيكتبَ في أكثر من غرض شعري، ووفرة القصائد الطوال. وحين سئل الأصمعي عن الشاعر الجاهلي الحادِرة أجاب: “لو كان قال خمس قصائد مثل قصيدته لكان فحلا”. وكان يعني قصيدة الحادرة التي مطلعها: “بَكَرتْ سُمَيّة…”. وإذا قسنا ذلك على الرواية مع الفارق، فإن أصحاب الواحدة من الروائيين امتلكوا بالطبع شرط الاقتدار، وفقدوا شَرطَي التصرف (الكتابة في أكثر من غرض أو موضوعٍ)، والوفرة (كتابة أكثر من عمل مُطوَّل)!.
نعم، هناك روائيون من أصحاب الواحدة كالذين ذكرتُهم سابقا، ولكنهم نُسُوا كأنهم لم يوجدوا أو كأنهم لم يولدوا، فلم تكن واحدتُهم سبيلَهم للشهرة أو الخلود كهؤلاء، ومثل ذلك أيضا يُقال لأولئك الذين كتبوا العشرات من هذه الروايات ثم أصبحوا بعد ذلك نَسْيًا مَنسيّا!!
إذًا أين هو المعيار الصحيح في جودة ما يُكتَب؟! وما هي عوامل بقائه؟!.
المعيار مرة أخرى هو القيمة، هو ما ينفع الناس لكي يعيش مع تعاقب الأزمنة، المعيار هو نقديٌّ بالضرورة، وحدده القرآن بقوله تعالى: “فأمّا الزَّبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع النّاسَ فيمكث في الأرض”. واسألوا الآن بعد ذلك لماذا خلدتْ أعمال دون أخرى؟! لماذا عاشت أشعار المتنبي وستُنسَى أشعار كثيرين؟! لماذا ستظل أعمال شكسبير تُحلَّل وأبطاله تُشرَّح، وستُنسى أعمال كثيرين؟! لماذا ستعيش الفكرة في أعمال غسان كنفاني وستموت في أعمال من سوّقوا الانبطاح وذوبان الهوية والخضوع لمُدية الجزّار تحت مُسمَّيات التعايش وقبول الآخر الكاذبة؟!.
القضية في النهاية نسبية، إن حياكة ثوب في يوم ممكنة، وحياكة ثوب في عام ممكنة أيضا؛ لكنها بالضرورة لن تُنتج ذلك الثوب الذي فكّر فيه النسّاج أول بَدْئِه في العمل؛ لا لونه ولا شكله ولا تداخل الخيوط فيه؛ إنه بالضرورة ثوب آخر.
في النهاية؛ لنفترض الآتي، لو أن كاتبا عادي القدرة، لكنه عالي الانضباط، أراد أن يُدرّب نفسه على الكتابة، فقرر أن يقرأ فصلا واحدا من كتاب في اليوم، ويكتب صفحة واحدة، فمعنى ذلك أنه يستطيع أن يكتب (365) صفحة في السنة، لنقل إنها (350) صفحة، والأسبوعان المتبقيان أحدهما لراحته، ويراجع ما كتب في الأسبوع الثاني.. إن هذا يعني أنه يستطيع أن يكتب كتابا مكتملا في السنة إذا ألزم نفسه بساعة واحدة يوميا، هي التي تستغرقه في قراءة فصل من عشر صفحات، وكتابة صفحته اليومية اليتيمة تلك. إن هذه الساعة التي قد تضيع من أي واحد منّا في اليوم، وقد يضيع أضعافها كذلك في كل يوم، قادرة بهذا الانضباط أن تُنتِج كتابا جيدا في السنة، معتمدة على القراءة التي هي طعام الكاتب الجيد وشرابه، وعلى تدريب النفس على كتابة الصفحة، التي تصبح يسيرا جدا كتابتها بالتمرين والدربة والمراس، ولا أريد له أن يتحمس الكاتب الكريم فيكتبَ أكثر من صفحة. كتاب واحد في السنة، يعني (30) كتابا على الأقل في ثلاثين سنة، إن هذا يعني أنكَ صرتَ من أكثر الكُتّاب إنتاجا، إنهم سيقولون لك بعد الكتاب العاشر لماذا هذه الغزارة في الإنتاج؟ من أين تأتي بالوقت لتكتب هذا كله؟ من أين آتي بالوقت؟ إنني لا أبذل أكثر من ساعة واحدة في اليوم يا سادة.. مرحبا بك إلى نادي الكُتّاب الحقيقيين!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
Loading...