الجوع

بواسطة | فبراير 26, 2024

بواسطة | فبراير 26, 2024

الجوع

بينما العالم يشاهد مشاهد سينمائية، يعيش شعب غزة الموت الحقيقي للجوع والمعاناة. الصحون الفارغة والأجساد المنهكة يرويان قصة الجوع والإهمال. هذا المقال يناقش الواقع المرير ويستنطق التخاذل الإنساني والسياسي.

مشهد الوحشية المنسية تحت وطأة الاحتلال

هذا ليس مشهدًا سينمائيًّا، ليس مشهدًا تلتقطه العدسات من أجل أن تقدّمه لهوليود كي تحصد من ورائه الجوائز، إنه مشهد يُقدَّم للإنسانية ولا يحصد إلا التخاذل، إنه مشهد الموت الحقيقي، الموت الذي يتمثل على شكل وحش عملاق يفغر أنيابه الألف من بين شدقيه العملاقين من أجل أن يبتلع شعبًا جائعًا بأكمله في جوفه!!

الصحون الفارغة، والأوراق اليابسة، والمِعَد الخاوية، والشفاه المتشقّقة، والعيون الزائغة، والخطوات التائهة، والسيقان النحيلة، والبطون الضامرة، والأيادي المرتجفة، والآهات المكتومة، والآلام المكبوتة، والفراغ الذي يبتلع الأماني… هكذا يعيش شعب غزّة اليوم.

هذه صورة من بقي حيًّا، أما الذين اختارهم الله إلى جواره شهداء فأولئك صاروا محسودين ممن بقي على الأرض من الأحياء، ذلك أن الشهداء جاءهم الموت مرة واحدة، وأما هم فيموتون في اليوم مئة مرة؛ فالجوع موت، والألم موت، والجراح موت، والعجز موت، وانتظار العَون موت، واللجوء موت، ونظرة الطفل الجائع إلى أبيه موت، والثكل موت، وخذلان الجار موت وألف موت.

كان من أيسر الأمور وأبسطها أن تُطعم جارك، أن تبعث له بصحن أخذتَ فيه من طعامك فأهديْتَه، كان هذا دَيدَننا حتى ولو لم يكن جارنا جائعًا، كنا نفعل ذلك لأن ديننا ومُروءتنا وعاداتنا الكريمة تدفعنا إلى ذلك، بل إن هذا من أخلاق العرب أيام الجاهلية، إذ إنه لمّا أراد الشنفرى الشاعر الجاهلي الصعلوك، أن يمدح (أُميمة) حبيبته، مدحها بأنها تسقي جارتها لبنًا قبل أن تشرب هي، قائلاً:

تَبِيتُ بُعيدَ النوم تُهْدي غَبُوقها   لـجـارتـهـا إذا الـهَـديـّة قَـلَّــتِ

واليوم؟ أهل غزّة يجوعون، يجوعون حدّ الموت، ليس جوعًا واحدًا، ولا جوعًا ليوم أو اثنين، إنهم يتساقطون ذُبالات منطفئة من هذا الجوع القاتل، الشمال كله جائع وهو رهن الموت، والناس تتساقط أمامه كأنها أوراق خريف يابسة، وها هو يزحف نحو الجنوب، مثل وحش كاسر لا يقف في وجهه شيء، يبتلع كل من رأى، ويزدرد كل من يجد… ونحن؟ ماذا نفعل؟ نتفرج إلا من رحم ربي؟ نرى ونغطّي أعيننا، تبرأ منّا ذِمّة الله ولا يحرّك فينا ذلك ما كان واجبًا، أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم”.

إنه – مرة أخرى- ليس مشهدًا نجلس أمام التلفاز أو الشاشات لمتابعته ونحن مشدوهو النظرات، تنهمر في أعماقنا دموع خفيّة، وتصعد من أفواهنا الشهقة مرة بعد مرة، إنه ليس صورة ضوئية، إنه واقع حقيقي، وإن المطلوب أن نهبّ لا نقعد، وأن نفعل لا نبكي.

ومن يفعل؟ كل قادر على أن يعطي، وأن يدفع شيئًا من شبح الموت المتربِّص بهم.. وجيرانها نحن، مصر والأردن ولبنان؛ وأهلها نحن، بلادنا العربية من المحيط إلى الخليج، بلادنا التي تفيض خيرات بعضها لتكون قادرة على أن تطعِم وحدها شقيقاتها العشرين مجتمعات. أين أهل الرأي، وأهل القرار في زعاماتنا العربية؟ أليس منكم رجل رشيد؟! أليس منكم من يرعى حُرمة الجار؟! ويكون على مقدار الجاهلي الذي قال:

وما ضرَّنا أنَّا قليـل وجارنا   عزيز وجار الأكثرين ذليل

أَفَغزّة اليوم جار عزيز، أم إنكم جرَّعتموها الهوان وعدَدْتموها جارًا ذليلاً؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...