إنّ شهر رجب يحمل تاريخاً عريقاً في التراث العربي، حيث كان يُحترم ويُعظم قبل الإسلام، ولكن مع نزول الوحي، جاءت معه قواعد جديدة بخصوص القتال في هذا الشهر. سنتناول في هذا المقال الأهمية التاريخية لشهر رجب وكيف كان يُعتبر فترة هدنة وسلم في الحياة العربية القديمة.

شهر رجب: الهدنة التاريخية وأشهر السلم في التراث العربي

إنّه شهر (رجب)، وكانت العرب تعظّمه وتحرّم فيه القتال قبل الإسلام؛ فلما نزل الوحي، نزل معه قوله تعالى: {إنَّ عِدَّة الشُّهور عند اللَّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللَّه يوم خلق السَّماوات والأرض منها أربعةٌ حُرمٌ ذلك الدِّين القيِّم فلا تظلموا فيهنَّ أنفسكم} [سورة التوبة: 36]. والشّهور الثّلاثة إلى هذا الشهر هي (ذو القعدة) حيث كان يقعد العرب فيه عن القتال، وتضع فيه الحرب أوزارها؛ و(ذو الحجة) حيث يحجّون فيحتاجون إلى الأمن والسِّلم من أنْ تُتخطّف قوافلهم القادمة من كل فجّ عميق، و(مُحرَّم) الذي اكتسب اسمه من الحُرمة التي فيه. وأول من حرّم الأشهر الأربعة هذه هو إبراهيم عليه السلام، فلما جاء الإسلام أقرّ هذه السُّنّة، وأمضى عليها المسلمون حياتهم ما لم تكن هناك ضرورة.

وأغلب الظن أن الأشهر الأربعة التي حُرِّم فيها القتال، والتي تعادل ثلث شهور السّنة، هي صورة لما يُطلَق من لفظة (استراحة المحارب)؛ ذلك أن العرب قبل الإسلام قامت حياتها وحياة قبائلها على الغزو والقتل والسلب والنهب، وإغارة الجار على الجار من أجل حياة كلها مُجالَدة بحدّ السيف، لم تُنشئ دولة ولم تبنِ نظامًا، إنما كان يعود ذو السنام على من لا سنام له اضطرارًا من خلال هذه الغزوات لا اختيارًا.

إذًا هي هدنة عندهم لا أصل، فالأصل الحرب، فلما رأوا أنهم قد ضلّوا في هذه الحرب ضلالًا بعيدًا، وتعبوا من قرقعة سيوفها وقعقعة حديدها تعبًا طويلًا، وأُرهِقوا حتى مات الأقربون والأبعدون إرهاقًا شديدًا، قالوا لثُلثَي العام المقاتِل: يمكنك أن تستريح في ثُلثٍ منه؛ والثلث كثير.

واتّكأ الشعراء على الأشهر الحرم متسائلين، كأحمد شوقي في بُردته إذ تساءل تظرُّفًا: كيف يُستحلّ دمي ونحن في هذه الأشهر، التي تُصان فيها الدماء؟ فكان مطلعها:

رِيْـمٌ على القاع بين الـبان والـعَـلَمِ

أَحَلَّ سفْك دمي في الأشهُر الحُرمِ

ومُمتدحين الأمراء كما فعل الحيص بيص الشاعر العباسي:

الـعـام يـفـخـر بالشهــر الـحـرام تُــقًـى

والصاحب الصدر فَخْر الأشهُر الحُرمِ

عَـفٌّ عـن الـعـار والـمحـظور مُبـتـدِر

مـغـانمَ الـخـيـر وافي الـعـهـد والـذِّمـم

ومن أسماء الحرب في لغة العرب (الكريهة)، وسُمّيتْ بذلك لأنها مكروهة عندهم، وإن كانوا على اصطلائهم بنارها خائضين فيها، و(كريه) من الوزن (فعيل) بمعنى (مفعول) كحبيب وقتيل. ومن ذلك قول عنترة:

وإذا الجـبان نهـاك يوم كريـهـةٍ

خوفًا عليك من ازدحام الجَحْفلِ

فاعْـصِ مقالـته ولا تحْـفِـل بهـا

واقـدِمْ إذا حَـقَّ اللِّـقـا في الأَوَّلِ

وقول القعقاع بن عمرو التّميميّ:

يدْعون قعـقاعًا لكل كريهـةٍ

فيجيبُ قعقاعٌ دُعاء الهاتف

وحرب غزّة اليوم، وقد غبرَ على أُوارها المُتّقد أكثر من مئة يومٍ، تدور رحاها في شهرٍ من الأشهر الحُرُم هو رجب، ويأكل وحشُها البلاد والعباد، ويُدمّر البشر والشجر والحجر، وما من زعيم عربيٍّ تنهض به نخوتُه مع آخرين مِمّن يملكون أن يوقفوا هذا الجنون في غزّة بالمال أو بالمهادنة أو بمقابلٍ فيفعلون؛ خلا دموعًا يذرفونها باردةً تزيد في هذه الفجائع أطوارًا، إن كانت في عيونهم دموع حقّا!

لكِ الله يا غزّة، ولكم الله يا أهلها، إنه اعتراف بالعجز على الأصعدة كلها، نحن شركاء في قتلكم، نظرتم إلى أكفّنا فرأيتموها مُخضَّبةً بدمائكم قبل أن تُخضِّبَ يدَ أعدائكم، ولو أننا صُنّا كرامتنا لكان لنا ولكم غير ما كان، ولكننا نتمسك بالأمل وبلطف الله؛ لأنه لولاه لجرتْ علينا مقادير لا تُطاق. وقد قلت:

أَمَا والله يا غزّةْ

ويا أُمَّ الهدى والمجد والعِزّةْ

أما والله لو صُنَّا عروبتنا

لَقامت دونكِ الأرواح مُهتزَّةْ

على وَقْع الرصاصاتِ

أيا أُمَّ الكراماتِ

ويا مَنْ فَجْرُها رغْم الدّجى آتِ

ويا مَن علَّمتْ كلَّ الدُّنا معنى البطولاتِ

سيأتي النصر مثل الصبح

وَعْد الحقّ من ربّ السماوات

فلا تَهِني…

نهاية كل طاغيةٍ

لِصُنّاع النهاياتِ

أيمن العتوم

صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية

• الأسرى المُحرَّرُون الأربعة
• أين العرب؟!
• المغول الجُدد
• المُقاوَمة شِعرًا