السفسطائيون الجدد!

بقلم: أدهم شرقاوي

| 8 يوليو, 2023

بقلم: أدهم شرقاوي

| 8 يوليو, 2023

السفسطائيون الجدد!

في اللحظة التي كانت فيها مدافع السلطان العظيم محمد الفاتح تدك أسوار القسطنطينية، كان القساوسة في الداخل يخوضون فيما بينهم معركة فكرية شرسة.. تخيلوا أنهم كانوا يتناقشون في مسألة: أيهما جاء قبل الآخر، البيضة أم الدجاجة؟!.
وفي كتابه “انهيار الإمبراطورية الرومانية” يذكر المؤرخ الإنكليزي “إدوارد جيبون” أنه قد سبق انهيار الإمبراطورية الرومانية جوٌّ من الفلسفة الضحلة، لدرجة أن النخب الثقافية قد قضت أياما تتناقش فيما بينها حول حبة العدس: أيها وجهها، وأيها قفاها؟!.
يبدو أن بعض الأشياء لا تتغير على ظهر هذا الكوكب، السفسطائيون المنفصلون عن الواقع، الذين يناقشون قضايا لا طائل منها، باقون ويتمددون. وهم، فيما يبدو لي، سيصمدون حتى يشهد آخرهم نفخ إسرافيل في الصور!.

هؤلاء الشباب الذين لم يتجاوز أغلبهم من العمر عشرين سنة، قتَلَهم الاحتلال مرة برصاص بنادقه، وقتلهم السفسطائيون مرة أخرى برصاص مسائل فروعهم!.

منذ أيام حاول جيش الاحتلال اقتحام جنين، فوجدها -كما هي- عصيَّة على الكسر، لا تركع إلا حين تُصلي!. فعاد يجرُّ أذيال خيبته مخلِّفا وراءه دمارا، وشهداء مرّغوا كبرياء جيشه بالتراب!. ودَعَتِ المساجد عندنا إلى صلاة الغائب على هؤلاء الشهداء الذين ارتقوا، فالشهداء لم يسقطوا، وإنما سقط أولئك السفسطائيون الذين أخذوا ينبشون كتب الفقه، ويخبروننا أن بعض الفقهاءِ قالوا بعدم جواز صلاة الغائب، وهي خاصة بالنجاشي لأنه لم يكن هناك من يصلي عليه، وأن حشدا كبيرا من الفقهاء قد نفى جواز الصلاة على الشهيد أصلا!.
وهذا -لا شكّ- حق، ورد في كتب الفقه فعلا، وقد ورد خلافه أيضا، وهو من مسائل الفروع لا من مسائل الأصول، وليس في ديننا أمر صغير، ولكن هذه التفريعات والترجيحات ميدانُها مجالس الفقه لا مواقعُ التواصل أمام العوام، وأقل ما يُقال فيها: توقيتٌ مشبوه، وغيابُ حكمة، وقلةُ أدب في حضرةِ الدم!.
وهؤلاء الشباب الذين لم يتجاوز أغلبهم من العمر عشرين سنة، قتَلَهم الاحتلال مرة برصاص بنادقه، وقتلهم السفسطائيون مرة أخرى برصاص مسائل فروعهم!. وإن كان التكبير أربعا على الشهداء من مسائل الخلاف الفقهي، فإن من مسائل اليقين التكبير أربعا على من لم يكفه خزي قعوده، فتوَّجَه بخزي توقيت فتواه ومكانها!.

إن كثيرا من أدعياء الصوفية الذين يدّعون وصلا بابن الجوزي، وبإبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، ينسون أن ابن الجوزي كان يُقبِّل أيدي المجاهدين ويغبطهم، وأن إبراهيم كان لصيقا بالناس يتصدّقُ على الفقير

إنّ هذا الدين سلوك وعمل، ومتى تحوّل إلى تنظير فارغ صار اشتغالا بالناس لا أكثر.. وإن هؤلاء المشتغلين بالنّاس لا يخلو منهم مذهب ولا طريقة!.
إنّ كثيرا من السلفيين الذين يدّعون وصلا بالإمام أحمد وبابن تيمية، ينسون أن أحمد قد ارتفع بوقفة عزٍّ في وجه سلطان مبتدع، وأن حياته لم تكن محبرة ومقبرة، بل كان يكتب الحديث في المسند ويطبقه في الحياة!. وأن ابن تيمية كتب الفتاوى في السجن، وقبل ذلك كان يُقارع التتار في الصف الأول من المعركة، ولو عاد لتبرّأ منكم أيها الخوالف!.
وإن كثيرا من أدعياء الأشعرية الذين يدّعون وصلا بالعزّ بن عبد السلام وصلاح الدين الأيوبي، ينسون أن العزَّ قد باع الأمراء لتجهيز الجيش! وأن صلاح الدين حرَّرَ بيت المقدس ولم يحبس نفسه في مناقشة الأسماء والصفات، ولو عاد لتبرَّأ منكم ومن أشعريتكم المُدَّعاة!.
وإن كثيرا من أدعياء الصوفية الذين يدّعون وصلا بابن الجوزي، وبإبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، ينسون أن ابن الجوزي كان يُقبِّل أيدي المجاهدين ويغبطهم، وأن إبراهيم كان لصيقا بالناس يتصدّقُ على الفقير، ويمشي في حاجة الأرملة والمسكين، وأن ابن المبارك حين كتب كتابه “الزهد” كان في الجيش يكتب للفضيل بن عياض :
يا عابد الحـرمين لـو أبصرْتَنا
لعلمـتَ أنك في الـعبادة تلعـب
مَنْ كان يخضب خدَّه بدموعه
فَـنُحـورُنا بِـدمـائـنا تتخـضّـَب
وأن الثلاثة أولئك لم تكن صوفيتهم تكيّةً ولا زاويةً ولا أوراداً!.
السلفيون والأشاعرة والصوفيون الذين أعزّ الله تعالى بهم دينه، واستخدمهم لنصرة شريعته، عاشوا بين الناس وحملوا هموم أمتهم، جاهدوا وعلّموا وقضوا حوائج الناس، وألفوا الكتب ولم يعيشوا داخلها!.

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر للتعامل مع زوجة أبيه، ولن يعرف قيمة الدكتورة فوزية عبد الستار، إلا من يجد نفسه مضطراً للاشتباك مع إبراهيم الهنيدي. الأولى كانت رئيسة لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس الشعب المصري حتى برلمان 1995، والثاني هو رئيس اللجنة...

قراءة المزيد
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...

قراءة المزيد
الناقد ومراوغة النص..

الناقد ومراوغة النص..

استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها..   تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...

قراءة المزيد
Loading...