الفنّ في مواجهة الموت

بواسطة | فبراير 19, 2024

بواسطة | فبراير 19, 2024

الفنّ في مواجهة الموت

في الكوارث التي لا يمكن دفعها، وأمام الموت الذي يراه المنكوب يسير في الطرقات، وينام مع الناس ويصحو معهم، ينسحب الإنسان أمام هذه الفظائع التي يشاهدها إلى داخله، إلى أعماقه، يناجي فيها رفيقًا مُتخيَّلاً أو روحيًّا يؤنسه في وحشة لا تنتهي، بين أحداث وفجائع لا يستطيع تصديقها!

إنه يهرب إلى الفن ليحتمي به من الموت، أو ليُخفّف وطأته، أو ليمسح بعض دمائه التي سالت من شدقيه على جسده، حدث هذا مع البشر عبر التاريخ، كان الفن ملجأً وملاذًا يهرب إليه المصدومون من أجل أن يحافظوا على ما تبقّى في ذبالة أرواحهم من نور أو نار ألا تنطفئ.

فعل ذلك طائفة من الشعراء الذين رثَوا أنفسهم حين حاق بهم الموت، وأيقنوا أنه لا مفر منه، أشهرُهم مالك بن الرَّيْب، واجه الموت بقصيدةٍ عُدّت أجمل ما قيل في الرثاء، راح فيها يستذكر أيامه الأولى، وحنينه إلى بلاده البعيدة، وشجاعته في الحروب التي خانته هذه المرّة عبر جراحٍ قاتلةٍ، لم يعد ممكنًا الإفلات منها:

يقولون لا تَبْعَد وهم يدفنوني   وأيـن مكان الـبُعـد إلا مكانِيا

وحين بحث عن أقرب الأصدقاء إليه في لحظة الموت الحقيقي لم يجدهم بشرًا، بل وجدهم سيفه ورمحه، ثم حصانه ذلك الصديق الأمين، فحزن على أن موته لن يُمكّنه من أن يسقيه كما دأب أن يفعل:

تـذكَّـرتُ مـن يـبـكي عليَّ فـلم أجـد   سوى السيف والرمح الرُدينيّ باكيا

وأشــقــر مَـحـبـوكٍ يـجـرُّ عِــنـانـه   إلى الماء لم يتـرك له الموت ساقيا

وقد كان المحكومون بالإعدام في سجن تدمر يطلبون من أحدهم أن يقرأ عليهم القرآن الكريم، لا ليدفع عنهم الموت فقد كانوا موقنين بوقوعه، بل من أجل أن يخفّفوا من قدومه، ويجعلوا هذا القدوم لطيفًا يُبعِد عنهم شبح الخوف، كان واحدهم يقرأ بصوت شجيّ ومُطمئِن، والآخرون صامتون يستمعون لا بآذانهم فحسب، ولا بقلوبهم فقط، بل بجوارحهم كلها، في خشوعٍ تامّ، جعل من الموت رفيقًا لا عدوًّا، وصديقًا يأخذ بأيديهم إلى الضفة الأخرى باستسلام، ولا يلقيهم في نهر الجحيم الملتهب.

وواجه الصحابي خُبيب بن عدي الصلْبَ والموت بالصلاة والدعاء، ثم بالشعر:

ولسـتُ أُبـالـي حـيـن أُقـتـل مسـلـمًـا   على أيّ جنْب كان في الله مصرعي

وذلـك  فـي ذات الإلــه  وإن يــشــأ   يـبـارك على أوصـال شِــلْوٍ مُـمَـزَّع

وواجه قائدان من قادة مؤتة موتَ الشهادة بالفنّ، بالشعر الذي يرفع الهمّة أمام حديث النفس بالضعف لقاءه، فأنشد جعفر:

يا حبّذا الجنة واقترابها   طـيّـبةً وباردًا شـرابهـا

وأنشد عبد الله بن رواحة:

أقسمتُ يا نفس لَتنزلِنَّه   لَتَـنْـزِلـنّ أو لَـتُـكرهِـنَّه

إن هذا الفنّ ترنيمة الانتصار على الموت، أو هو تعويذة تنويم الموت أو ترويضه، وقيل إن (نيرون) كان يُنشِد الشعر مُستمتِعًا به وهو يرى روما تحترق أمام عينيه، وإن الفرقة الموسيقية التي كانت تعزف في سفينة (تايتانك) لم يمنعها غرق السفينة ومشاهدة الموت يتسلل إلى أنحائها من الاستمرار في العزف حتى ابتلع الموج الهادر الفرقة وغطّى صوته الهائل على أصواتها.

واليوم في غزّة، ماذا يفعل الغزّيُّون أمام الموت في حرب شَبّتْ نارُها منذ شهور عصيبة ولم تتوقّف؟! إنهم ليس لهم ترف الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية، حين كان يدخل بعضهم إلى بعض الدور المهدَّمة، فإذا وجد فيها آلة (البيانو) عزف عليها، من أجل أن يواجه وجه الحرب القبيح بلحن الفنّ الجميل.. فماذا يفعلون؟! إنهم يخترعون فنّهم في مواجهته؛ يتزوجون، يفرحون، يُغنّون العتابا والميجنا رغم اللحن الجنائزي العامّ المسيطر، يكتبون سرديّتهم المؤلمة، يقصّون حكايتهم التي لا تشبهها حكاية، يقرؤون الشعر وينظِمونه، ويخطّون الرواية أو يعيشونها، رواياتي تُقرأ اليوم في غزّة على قلّة الحصول عليها بِنَفَسٍ غير الذي كانت تُقرأ به من قبلُ، إن رواية المأساة التي أكتبها تصادق مأساتهم التي يعيشونها، وتحاول أن تُخفّف منها.. أحدهم قال لي إنه لجأ إلى روايتي (صوت الحمير) من أجل أن يضحك قليلاً في بحر من الكآبة المظلمة التي تكتنفه من الجهات كلها.

بعد هذا كله؛ يبقى السؤال قائمًا: هل يمكن للفنّ أن يواجه الموت؟ هل يمكن أن ينتصر عليه؟ أو على الأقل يجعله شيئًا عاديًّا يُمكن تقبُّلُه، بل والهُزء به؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...