المُلتفِت لا يَصِل!

بقلم: أدهم شرقاوي

| 26 أغسطس, 2023

بقلم: أدهم شرقاوي

| 26 أغسطس, 2023

المُلتفِت لا يَصِل!

في كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر: حين كان سُليم الرازي ببغداد لطلب العلم، كانت ترِدُ عليه رسائل من الرَّيِّ، فما كان يقرأ منها شيئا ولا ينظر فيها، وإنما يجمعها في صندوق عنده، فلما فرغ من تحصيل العلم، عمد إلى الصندوق، وقرأ الرسائل، فوجد في بعضها ما يُحزنه، ويضيق له صدره؛ فقال: لو كنت قرأتها في حينها لكانت قطعتني عن تحصيل العلم!.
الأيام ترمي سهامها دوما، ولا أحد بمنأى عنها، كل واحد فينا مُعرَّض أن يصاب، والناس في هذا نوعان: نوع ينزع السهم الذي أصابه ويكمل حياته لأن له وجهة عليه أن يبلغها، ولأنه يعرف أن مقامه في جرحه سيُعطل حياته، ناهيك عن أنه سيُبقي هذا الجرح غضّا طريا نازفا؛ ونوع يُشيح نظره عن الدنيا كلها ويجلس قبالة هذا السهم الذي أصابه، وهذا إنسان قلما يبلغ وجهته، ناهيك عن أن استحضار الألم دوما سيحجب عنك رؤية أي سعادة، فكُفُّوا عن عبادة الجروح.
الحياة ليس لها خلاف شخصي مع أحد، وأسوأ ما يعتقده المرء أنه مقصود!. الحياة هذا شأنها دوما، قبلنا ومعنا وبعدنا؛ فيها خداع وغدر وفشل، وكذب وخسارة وفَقْد.. لكنْ فيها بالمقابل صدق ووفاء، ونجاح وربح ولقاء!.
هي كأسٌ دائرة، وسنرتشف جميعا شيئا من هذا ومن ذاك، والفارق بين الناس هو في قدرتهم على التجاوز وطيِّ الصفحات.
لم يكن موت أُمنا خديجة بنت خويلد حادثا عرضيا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كان وقْع الأمر عليه أشبه بزلزال!. ففي لحظة واحدة فقد جبهته الداخلية، وأشرس جنوده، فخديجة كانت حبيبته وصديقته، وزوجته ومستشارته؛ ومع هذا فإننا نقرأ في كتب السيرة عن مدى حبه لأمنا عائشة!.
عائشة لم تُلغِ خديجة في قلبه، لقد بقي يذكرها حتى آخر يوم له في الدنيا، ولكنه -بأبي هو وأمي- أعطى نفسه فرصة ليحب مجددا، ويكمل حياته. ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو ما أتحدث عنه الآن.. أنه لم يعش في جرحه وإنما تخطاه وتجاوزه، على الحياة أن تمضي!.
عندما اُضطهِد المسلمون في مكة هاجروا إلى الحبشة، لا زهدا بمكة، فقد حملوها معهم في قلوبهم؛ ولكن على الحياة أن تستمر، وعلى الدعوة أن تمضي!.
وعلى مشارف مكة دمعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، وقال لها مخاطبا: والله إنك لأحب الديار إليَّ، ولولا أن قومكِ أخرجوني ما خرجت.. كان على الجرح في مكة أن يُنحَّى قليلا، وعلى التضييق أن يفارق؛ هذا التجاوز كلَّفه بكاء، ويا لدموع الرجال كم هي مليئة بالقهر!. ولكن لولا هذه الدموع ما كانت الدولة، ولا ذات الشوكة، ولا عزُّ الفتح.
أن تطوي صفحة سيئة لا يعني أنكَ نسيتها، وإنما يعني أنك لن تسمح لها أن تسرق ما تبقى من عمرك؛ وأن تتجاوز شخصا غادرا لا يعني أنه لا يعزُّ عليك أنك هُنتَ، ولكن عليك أن تلملم جرحك وتمضي!.
هناك أحبة أكثر وفاء، وأصدقاء أوفى عهدا، وضحكات أكثر إشراقا، كلها تنتظر منكَ أن تطوي الصفحة لتأتي إليك!.

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...