النوق.. وهدرة الفحل

بقلم: علي المسعودي

| 1 يونيو, 2024

بقلم: علي المسعودي

| 1 يونيو, 2024

النوق.. وهدرة الفحل

ما الشبه بين هذا البعير الهائج.. وأوطان تعيش مكتوفة الأيدي والآمال؟.. “كنت أحضر نفسي لمعركة لم تتمّ، وأنتظر نصراً لم يتحقق!”.

يحدّث نفسَه وهو يتأمل دورة الحياة الغريبة التي عاشها، بينما يعلق أكياس الملح في أطراف الشبك الحديدي المحيط بالذود.. تنفيذاً لنصيحة والده، كي يمنع إبله من أن تأكل وبرها بحثاً عن ملح تحتاج إليه أجسادها…

لم يكن يعرف هذا الأمر بتاتاً.. كما لا يعرف الكثير من الأسرار التي هي من بدهيات المعرفة لدى أيّ رجل بدوي، وقد تيقّن من ذلك عندما اضطر إلى صناعة “البَوّ” للسيطرة على نفسيّة الناقة بعد أن فقدت “حُوارها” كي لا تقطع لبنها عنه.. كما شعر بالرضا وهو يحذّر الراعي من أن يخطئ في وسم الإبل، ويشرح لنفسه تاريخ عائلته مع هذا الوسم.. ربما كي لا ينسى التفاصيل.

يرن هاتفه الذي يزيّن شاشته بصورة له مرتديا “بدلته” الرسمية، متوهجا برتبته العالية، يتذكر مناسبة هذه الصورة تماما.. قبل يوم واحد من انطلاق كتيبته إلى مناورة عسكرية ضخمة.

يومياً يقطع بسيارته طريقه من البيت إلى إبله على أطراف المدينة، حيث الأرض القاحلة التي لا توفر إلا هواء نقياً؛ فلا مرعى ولا ماء ولا كلأ.. يستغلّ وقت الذهاب والإياب في محادثة هاتفية مع ذوي الخبرة في الإبل للاستفادة من نصائحهم. رغم أنه من عائلة عريقة في اقتناء هذه النجائب، إذ لم ينقطع تملكها لها منذ عشرات السنين، فإنه لم يلتفت إليها إلا عندما أُحيل إلى التقاعد في السنة الماضية.

يتفقد “عطايا الله” -كما يسمّها والده-.. يقلّب نظره فيها، يتفحّص “العزبة” ومحتوياتها، ثم يجلس خارج الخيمة المنصوبة أمام الشبك.. ويطالعها متأملا كأنما يحفظ أجسامها وطبائعها.

يفكّر في السنوات التي قضاها في خدمة الجيش حتى وصل إلى رتبة عميد..

ما يقارب الثلاثين عاماً من الخدمة العسكرية عاش في بداياتها شقاء التجربة، وتعب المناورات والخضوع للأوامر.. حتى إذا ارتقت رتبته، أصبح آمراً ومسؤولاً عن مجموعة كبيرة من الأفراد والضباط الأدنى منه رتبة، يقفون أمامه وقفة الامتثال مع عبارة: “سيدي”.. يأمر فيتم تنفيذ طلباته على الفور.

سافر إلى دول العالم في مهمات رسمية، والتحق بدورات دولية، ونال شهادات تقدير عالية، كلها علّقها في مجلسه كي يراها الضيوف.. لكنها في نفسه فقدت الكثير من بريقها، ولم يعد لها في هاجسه أي رنين.

يُحزنه أنّ خبرته العسكرية الطويلة، ومعرفته الواسعة بالحروب والتخطيط العسكري، لم يعزّزها بمعرفة الإبل وأسرارها.. يُحزنه هذا الجهل أكثر عندما يتذكر أن كل الحروب التي انتصرت فيها أمّته، وفتحت فيها الفتوح، خاضتها وهي تركب الإبل.. ثم توقفت تلك الانتصارات منذ ترجلت عنها لتركب الدبابة والطائرة!!

أرخى يده عن الوسادة، ثم تمدد فوق الرمل وهو يسمع هدير “الجمل” المحجوز في شبك بعيد عن النوق.. يتطاير زبد هيجانه من بين مشفريه.

ولن يستطيع الفكاك من العقال الذي يقيّد رجليه.. ولن يتمكن من تجاوز الشبك الذي يحيط به!!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر للتعامل مع زوجة أبيه، ولن يعرف قيمة الدكتورة فوزية عبد الستار، إلا من يجد نفسه مضطراً للاشتباك مع إبراهيم الهنيدي. الأولى كانت رئيسة لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس الشعب المصري حتى برلمان 1995، والثاني هو رئيس اللجنة...

قراءة المزيد
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...

قراءة المزيد
الناقد ومراوغة النص..

الناقد ومراوغة النص..

استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها..   تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...

قراءة المزيد
Loading...