تحرير القدس (1)

بواسطة | أبريل 22, 2024

بواسطة | أبريل 22, 2024

تحرير القدس (1)

بدأت الدعوة إلى تحرير القدس، منذ احتلالها عام 492 هـ، غير أن احتلالها لم يلقَ ذلك الصدى – على الأقل في ما وصلنا- شِعرًا مما يكون على مستوى هذه الفاجعة؛ والسبب قد يكون في تخاذل بعض المسلمين عن نصرة بيتهم المقدّس، والدفاع عنه، أو لعلّ شعراً قيل في تلك الفترة ولم يصلنا منه شيء، أو وصلنا ما لا يمكن أن نقول إنه يعبّر عن هذه المصيبة بما تستحق، أو أن الشعر العربي يحفل بالانتصارات أكثر مما يحفل بالهزائم، أو أن المصيبة كانت كبيرة إلى الحد الذي ألجم الألسنة، وأعمى الأبصار، وأوجع القلوب.

غير أن الدعوات إلى النهوض والاستعداد للقتال، والإعداد للجهاد وطرد المحتلّين، بدأت تتبلور في مطلع القرن السادس الهجري، وأول قصيدة  قيلت في الحضّ على الجهاد والتحريض ضد الصليبيين هي قصيدة ابن الخياط ، المتوفى سنة 517 هـ، وجّهها إلى عضب الدولة المتوفى سنة 502 هـ، وفيها يصف ضعف المسلمين، وظلم الصليبيين، وقسوتهم، وقتلهم الناس، وخوف العامّة منهم، يقول فيها:

تُــراخُـون مَـن يـجـتـري شِــدَّةً   وتنسَوْن من يجعل الحرب نقْدا

أنَـوْمًا عـلـى مثل هذي الصـفاة   وهـزْلاً وقد أصـبح الأمر جِـدّا

بنو الشِّرْك لا يُنْـكِرون الـفسـاد   ولا يعرفون مع الجَـوْر قصْـدا

فـكم مِن فـتـاة بـهـم أصـبـحـت   تدقّ من الـخـوف نحْـرا وخـدّا 

وأنتَ ترى ما فيها من إثارة للحميّة، من خلال ما لحق بالمسلمين من تقتيل وظلم وهتك للأعراض، والعِرْض عند العربي مصون يحاول ما وسعه الجهد أن يظلّ نقيّاً طاهراً لا يُمسّ، ولا يُشان، ولذا فالاستثارة من خلاله تكون فعّالة الأثر.

وهناك قصيدة تُنسَبُ للأبيوردي، تصوّر مدى الكارثة التي حلّت بعد احتلال الصليبيّين لبيت المقدس، يقول في بعضها:

مَـزَجْـنا دمـاءً بالدمـوع السَّـواجِـم   فلمْ يبـقَ فيـنا عـرضـة لـلـمَـراحِـم

فإيـهـاً بـنـي الإســلام إن وراءكـم   وقـائـع يُـلْحِـقْـن الـذُّرا بالـمـنـاسِـم

أرى أُمّتي لا يُشْرِعون إلى العِدى   رماحَهـمُ والـدّيـن واهي الـدعـائـم

ويجتنبون النار خوفًـا مـن الـردى   ولا يحسِبون الـعـار ضـربة لازم

والقصيدة، تستصرخ نخوة المسلمين، من خلال ما تصوّره من الفظائع  التي ارتكبها الصليبيون، وتحذّرهم من أن الأيام القادمة ستكون أعسر وأشدّ، وهي ترثي حال المسلمين الذين تركوا سلاحهم ولم يُشرعوه في وجه أعدائهم، واستناموا للذلّ.

ولعل القصيدة تصور واقعاً كانت الأمة مُبتلاةً به في ذلك الوقت، إذ إن أكثر قادتها كانوا مستسلمين أو مسالمين لأعدائهم، لا يفكرون بالإعداد للجهاد والتحرير، بقدر ما يفكرون بالحفاظ على سلطانهم، ولو مقابل التفريط بأقدس بقاع الأرض.

ولقد تركّزت الدعوات إلى تحرير بيت المقدس من خلال استصراخها بعضَ القادة، الذين وثقت بهم العامّة، ورأت فيهم خلاصها من حالة الضعف والتشرذم الطامّة، وساعد ظهور هؤلاء القادة على أن يكونوا عوامل جذْب للشعراء الذين حملوا – كذلك – هَمَّ أمتهم ومقدساتهم في أعماقهم.

ويتساءل المرء.. كيف كان يمكن أن تسير الأمور أو ما الذي تؤول إليه، بعيداً عن هذين المحورين المهمّين؛ قادة يتولّون أمور المسلمين ويسيرون بهم إلى قتال الصليبيين من خلال عاملي الوحدة والدعوة إلى الجهاد، وشعراء يبثّون الحماسة في هؤلاء القادة أو الجنود، ويستثيرون حميّتهم  لتخليص البلاد من شرور المعتدين ورجسهم؟ فكان ذلك بحقٍّ جهاد السيف والقلم.

ثمّ يكون فتح إمارة الرّها، سنة 539 هـ، بدايةَ سلسلة انتصارات، ستتوالى إلى أن تُتوَّج بالنصر الأكبر والفتح الأعظم، وهو تحرير بيت المقدس وتخليصه من أيدي الصليبيين عام 583 هـ.

وتأتي أهميّة الحديث عن فتح إمارة الرّها، كونها أول إمارة أقامها الصليبيون في الشام، وأنها من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس وأنطاكية وروميّة وقسطنطينيّة، فسار إليها عماد الدين زنكيّ، وحاصرها ثمانيةً وعشرين يوماً، ثم دخلها فاتحًا، وفي هذا يقول ابن القيسرانيّ:

هو السيف لا يُغْنيكَ إلا جِلاده   وهل طـوَّق الأَمْلاك إلا نِجاده

وهو إشارة واضحة إلى أنّ البلاد لا تفتح إلا بحدّ الظُّبا، وأنه لا يُجدي مع الصليبيين غير السيف، وأنه لا يحمي الأملاك كما يحميها الجهاد في سبيل الله.

ويختم ابن القيسرانيّ قصيدته بتوجيه الدعوة إلى ملوك الصليبيين أن يستسلموا، لأن عماد الدين قادم إلى قتالهم لا محالة، وعازمٌ على الظفر بهم مهما كلّف الأمر، وتخليص البلاد من شرورهم، وهي إشارة واستبشار من جانبٍ آخر بفتح ما تبقّى من ديار الإسلام في قبضتهم، وفي مقدمتها بيت المقدس. يقول:

وقـل لـمـلوك الكفر تُسْلم بعـدها   مـمـالـكَـهـا إن الــبــلاد بـــلاده

فَلَوْ دَرَجُ الأفلاك عنه تحصَّنتْ   لأَمْسَـتْ صِعادًا فَوْقَهنَّ صِعـاده 

يُتبَع..

1 تعليق

  1. Nisreen

    مقتبسة
    والغائب لا بد له أن يعود ولو طال غيابه ؛فمتى يعود النور الغائب ليهزم الظلام المتجذر في كل نسمة .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...