تخابث الشعراء!

بواسطة | يوليو 31, 2023

بواسطة | يوليو 31, 2023

تخابث الشعراء!

الشعراء أرباب الكلام وآباؤه، يلين في أيديهم كأن ما جعل من حروفه لهم لم يجعل لأحد سواهم. وأكثرهم حاضر البديهة، سريع الإجابة، إذا حصر جعل القول بابه للخروج، وإن جبه ناور من جبهه حتى يقلب له ظهر المجن، ينسل من الخطيئة إذا لحقته انسلال الشعرة من العجين.
ورد في كتاب (آداب الشافعي ومناقبه)؛ لابن أبي حاتم المتوفى سنة (327 ه) أن الشافعي رضي الله عنه قال: ” أصحاب العربية جن الإنس يبصرون ما لا يبصر غيرهم”، ومن أحق بالعربية -أن يمتلك زمامها- من الشعراء المجيدين؟!
وأخبارهم في ذلك مشتهرة، مبثوثة في كتب الأدب، وسأسوق خبرين مما روي عنهم في هذا المجال. أما الأول فورد في كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة (276 ه)، ونقله عنه سواه كالميداني المتوفى سنة (518 ه) في كتابه (مجمع الأمثال) حين عرض للمثل (أصح من بيض النعام). ونقله الزمخشري المتوفى سنة (538 ه) صاحب (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: “والشعراء يتبعهم الغاوون” لكن دون تفصيل، وكذلك نقله ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه) في كتابه (أخبار النساء). فأما الخبر، فبطله الشاعر الفرزدق، إذ إنه دخل يوما على سليمان بن عبد الملك، وهو خليفة، فقال: أنشدني يا أبا فراس! فأنشده قصيدته حتى بلغ إلى قوله:
خرجن إلي لم يطمثن قبلي .. وهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعات .. وبت أفض أغلاق الختام
كأن مفالق الرمان فيها .. وجمر غضى جلسن عليه حام
ثلاث واثنتان، فهن خمس .. وسادسة تميل إلى سمام
فقال له سليمان: ما أظنك يا أبا فراس إلا قد أحللت نفسك؛ أقررت عندي بالزنا، وأنا إمام، ولا بد من إقامة الحد عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحللت نفسي إن كنت تأخذ بقول الله وتعمل به. قال سليمان: فبقول الله نأخذ عليك الحد. فقال الفرزدق: فإن الله تعالى يقول: “والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون”. وأنا، يا أمير المؤمنين، قلت ما لم أفعل. فتبسم سليمان، وقال: تلافيتها يا أبا فراس، ودرأت الحد عن نفسك.
ولعل الخليفة كان يدري -مثلما يدري الفرزدق- أنه فعلها، ولكن ذكاءه وبداهته أنقذته، فالمعلوم أن عمر بن عبد العزيز قد نفاه من المدينة لفسقه، وخبره أن الفرزدق قدم على عمر بن عبد العزيز وهو وال على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك فأنزله عمر منزلا قريبا منه وأكرمه، وأحسن ضيافته، ثم إنه بلغه عنه أنه صاحب فجور، فبعث إليه عمر بألطاف مع جارية له، وقال لها: “اغسلي رأسه وألطفيه جهدك”، وأراد اختباره بذلك ليعلم حاله. فأتته الجارية، وفعلت ما أمرها به مولاها، ثم قالت له: “أما تريد أن تغسل رأسك؟”. قال: “بلى”. فقربت إليه الغسل، فوثب عليها، وعمر ينظر إليه من نافذة في البيت دون أن يراه. ولما خرجت الجارية إلى عمر، وعلم من أمره ما علم، بعث إليه: “أن اخرج عن المدينة، ولئن أخذتك فيها – ما دام لي سلطان – لأعاقبنك”. ثم إنه نفاه. فلما أذعن الفرزدق وخرج، وصار على راحلته قال: قاتل الله ابن المراغة، (يعني جريرا) كأنه كان ينظر إلي حيث يقول:
وكنت إذا نزلت بدار قوم .. رحلت بخزية وتركت عارا
هذا الأول. وأما الخبر الثاني الذي سبقت بديهة الشاعر فيه عقوبته فنجا من أن يقع فيها، فقصة ذكرها ابن الجوزي في كتابه (الأذكياء): من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه أن أحد ولاته أو عماله الذين ولاهم على بعض الأمصار، وهو رجل من بني هاشم أو من غيرهم، يتغنى ببيت من الشعر ويقول:
اسقني شربة ألذ عليها .. واسق بالله مثلها ابن هشام
فوصل خبر البيت إلى الخليفة الفاروق، وظاهره أنها شربة خمر، فغضب، وبعث في طلبه. فجاؤوا به إليه. فلما مثل العامل بين يديه سأله عمر: “أتدري لم أشخصتك إلي؟”. قال: “لا يا أمير المؤمنين”. قال: “سمعتك تقول:
اسقني شربة ألذ عليها .. واسق بالله مثلها ابن هشام”
قال: “نعم يا أمير المؤمنين، ولكن الذي نقل إليك البيت لم يضم إليه صاحبه الذي أقول فيه:
عسلا باردا بماء سحاب .. إنني لا أحب شرب المدام
فأتى على البديهة ببيت ثان في الحال، فتحول الأمر من شرب الخمر إلى شرب العسل، من الخبائث إلى الطيبات، وليس من شأن عمر ولا سواه أن يفتش عما في الصدور، فعفا عنه ورده إلى عمله.
وهكذا كان الشعراء من أهل البديهة، يسرعون من تخابثهم إلى المعنى فيقلبونه، ويصرفونه على غير ظاهره، فينجون من العقاب!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...