حفنة من تراب المقبرة!

بواسطة | مايو 13, 2023

بواسطة | مايو 13, 2023

حفنة من تراب المقبرة!

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الجوزي في عيون الحكايات:
إن ذا القرنين دخل مدينة، فخرج أهلها ينظرون إلى موكبه، الرجال والنساء والصبيان، وكان في المدينة شيخ كبير في السن مقبل على عمله، فمر به ذو القرنين، فلم يلتفت الشيخ إليه، فعجب ذو القرنين من هذا، وأرسل إليه، وقال له: ما شأنك، خرج الجميع ينظرون إلى موكبي، فما بالك أنت أعرضت عني؟. فقال له: لم يعجبني ما أنت فيه!. إني رأيت ملكا مات في يوم واحد هو ومسكين، فدُفنا في ذات التراب، ثم مضت سنوات فنُبشَتِ المقبرة، فما عرفنا عظام الملك من عظام المسكين!. فأُعجبَ به ذو القرنين، ولما خرج جعله واليا على المدينة!.

في هذه الحفنة بقايا شاب، كان قويا يرفع الأثقال في النادي، ولكنه ما فكر يوما أن يرفع لحافه ويقوم لصلاة الفجر؛ ثم صارت العضلات طعاما للديدان

لا شيء يُريكَ تفاهة الدنيا إلا الموت!. ولو خُلِط تراب المقبرة كله، ثم أُخِذت منه حفنة لكانت تلخيصا لحقيقتنا، وحقيقة هذه الدنيا التي نتقاتل فيها!.
في هذه الحفنة بقايا رجل ثري، جمع المال من حلال ومن حرام، أكل ميراثا، واحتكر سلعة، ولم يدفع لأجير حقه.. غصب مسكينا بيتا، وسلب ضعيفا أرضا؛ ثم مضى تاركا وراءه كل شيء كان يجمعه، ليصير ذرات في حفنة في كف يد!.
وفي هذه الحفنة بقايا شاب، كان قويا يرفع الأثقال في النادي، ولكنه ما فكر يوما أن يرفع لحافه ويقوم لصلاة الفجر؛ ثم صارت العضلات طعاما للديدان، وكل ما تبقى من القوة ذرات في حفنة في كف يد!.
وفي هذه الحفنة فتاة حسناء كفلقة القمر، كانت تلبس ثيابا تُظهِر من جسدها أكثر مما تستر!.. كان يعجبها أن تتطاول إليها النظرات، وكانت تطرب لعبارات الغزل من الرائح والغادي، وكانت تحب أن تكون أُمنية في قلب كل من رآها؛ ثم أسدل الموت ستار الحكاية. وهاهي الآن ذرات في حفنة في كف يد!.
وفي هذه الحفنة حاكم ظالم، ووزير متسلط، ومدير متجبر، ورب عمل متكبر، كانوا جميعا يحسبون أن الدنيا باقية وأنهم باقون معها، ثم انتبهوا من غفلتهم حين رأوا وجه ملك الموت، ثم هاهم في هذه الحفنة، وقد زال السلطان وكُسِرَ الصولجان واندثرت السلطة، مجرد ذرات في كف يد!.
وفي هذه الحفنة أيضا فقيه، وقارئ للقرآن، كان يبيع دينه بدنياه، وفيها موظف مرتَشٍ، وطبيب جشع، ومهندس غشاش، وحِرفي كذاب، وزوج متسلط، وزوجة ناشِز؛ عرفوا جميعا على خشبة الغُسل أن اللعبة انتهت، وأن الامتحان قد انقضى وقته، وقد حان وقت الاطلاع على النتيجة، ثم هاهم جميعا مجرد ذرات في كف يد!.

ما ضرهم جميعا أنهم صاروا مجرد ذرات في هذه الحفنة، وهم أسعد الناس الآن حالا، في نعيم البرزخ، ينظرون مقاعدهم في الجنة، ويرددون: اللهم أقم الساعة!

وفي هذه الحفنة أيضا ثري لم يأكل درهما من حرام، وشاب نشأ في طاعة الله، وفتاة راودتها الدنيا عن نفسها فاختارت ما عند الله لأنه خير وأبقى؛ وفيها حاكم عادل، ووزير ناصح، ومدير رحيم، وفقيه لم يبِعْ دينه، وقارئ للقرآن كان يفسره سلوكا وعملا؛ وفيها طبيب طيب، ومهندس أمين، وموظف عفيف، وزوج حنون، وزوجة رؤوم.. ما ضرهم جميعا أنهم صاروا مجرد ذرات في هذه الحفنة، وهم أسعد الناس الآن حالا، في نعيم البرزخ، ينظرون مقاعدهم في الجنة، ويرددون: اللهم أقم الساعة!.

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...