شعر الحرب والشهادة

بواسطة | ديسمبر 11, 2023

بواسطة | ديسمبر 11, 2023

شعر الحرب والشهادة

الحرب، أقسى التحديات التي تواجه الإنسان، وشعر الحرب يحمل في طياته الصرخات والآهات، يرافقه صور المعاناة والدمار. يتناول هذا المقال جوانب من شعر الحرب ومفهوم الموت في سياقها، مستعرضًا تأثيره على الأفراد والمجتمع.

الموت في سياق الحرب:

ليس أوجع من الحرب. وليس أوجع في الشعر من شعر الحرب. إنه صرخات الثكالى، ودموع اليتامى، وآهات المعذبين، وأنات الموجوعين، مختلطة بأحلام مقتولة، وآمال مبتورة، وأمنيات موؤودة. إلى جانب كومات من اللحم المعجون، والجثث الملقاة على الرمال، والجماجم التي ثقبها الرصاص حين همت بشرب الماء.
والموت هو الموت. لكنه يكتسب شجنا أرهف من حد الظبى إذا كان موت حبيب غائب في حرب طويلة. وموت الصغير الذي كانت ترى فيه مخايل الغد المشرق أوجع من موت الكبير، وموت الكبير الذي كان يرفع اسم بلاده وينقش حروفها على صفحة المجد والعلا أوجع وأوجع.
والموت هو الموت، من الصعب أن تجد موتا أشد موتا من سواه، إنه موت فحسب، أثره على الراحل انقطاع حبل الحياة كأنها قرصة في الخد، غير أن أثره على الباقين تتفاوت شدته بحسب مكانة الراحل وأثره. لكن الموت في النهاية هو الموت؛ لطخة سواد في فضاء معتم.
الموت راية مصبوغة بالدم، تسحب قماشها المخضل على كل بيت ووجه وعين، هذا ما قاله الزهاوي:
على كل عود صاحب وخليل .. وفي كل بيت رنة وعويل
وفي كل عين عبرة مهراقة .. وفي كل قلب حسرة وغليل
وإن بكائي اليوم لو نفع البكا .. عليهم وفي مستقبلي سيطول
وما الموت إلا خطوة ينقلها الشهيد من عالم الزيف إلى الحقيقة، أو قفزة من ضفة السراب والخراب إلى ضفة السحاب، أو باب يدخله فإذا أغلق وراءه ورأى النعيم الذي استقبله أراد أن يعود ليخبر من بقي خلف الباب بما رأى، ولكن هيهات. والشهادة لواء الشهيد كما قال أحمد شوقي في رثاء الشهيد عمر المختار:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء .. يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا منارا من دم .. يوحي إلى جيل الغد البغضاء
وما موت الظمأ في الدنيا -كما حدث مع عكرمة بن أبي جهل وصاحبيه في معركة اليرموك بعد بلاء شديد وإثخان في العدو عظيم- إلا لأجل أن يكون الري في الجنة أوفى ما يكون، فيقال لهم: ري بلا ظمأ، وراحة بلا نصب:
إن البطولة أن تموت من الظما .. ليس البطولة أن تعب الماء
والثلاثة في تاريخنا العربي الإسلامي كثيرة، فأما الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم، وأما ثلاثة عكرمة في اليرموك فاختارهم شهداء، وأما ثلاثة الشهداء في ثلاثاء الحمراء فخبرهم عجيب كأخبار أصحابهم السابقين. أعدمهم الاستعمار الإنجليزي في ثورة البراق عام 1930م. أولهم (فؤاد حجازي) وكان عمره خمسة وعشرين عاما، قال فيه إبراهيم طوقان:
قسما بروح (فؤاد) تصعد من جوانحه زكية
ما نال مرتبة الخلود بغير تضحية رضية
عاشت نفوس في سبيل بلادها ذهبت ضحية
وأما الثاني فـ (محمد جمجموم) الذي حطم قيده ليسبق صاحبه إلى الشهادة وكان في ريعان الشباب، فقال طوقان فيه:
قسما بروح (محمد) تلقى الردى حلو الورود
قسما بأمك عند موتك وهي تهتف بالنشيد
وترى العزاء عن ابنها في صيته الحسن البعيد
ما نال من خدم البلاد أجل من أجر الشهيد
وأما الثالث فـ (عطا الزير)، وقد سبقه صاحباه الأفتى منه، وبقي هو، فتقدم رابط الجأش، وهو يسمع تضاغي أطفاله الصغار من خلفه، فيطمئنهم أنه سيأتيهم بالحليب من أنهار الجنة:
قسما بروحك يا (عطاء) وجنة الملك القدير
وصغارك الأشبال تبكي الليث بالدمع الغزير
ما أنقذ الوطن المفدى غير صبار جسور
وأما من أجج الثورات في فلسطين، من ثورة البراق إلى ثورة عام 1936م فشيخ أزهري جعله العلم الحقيقي يحمل البندقية ولا يدعو إلى التخاذل والركون إلى الدعة. وكان يعلم أن هذا الطريق الطويل الذي اختطه له ولزملائه مليء بالتضحيات، والشهداء الذين سينبتون على جانبيه ورودا يانعة.
وكان يعرف أنه سيفقد أعز ما يملك، وليس ذلك البناء والحجر والمتاع، ولكنها الروح، ومع ذلك كله أقدم على النضال غير مدبر، وأقبل غير محجم، واستشهد من كان سببا في كتائب القسام اليوم التي تذيق الصهاينة أشد أنواع الويل، بعد أن آمنت أن الطريق الذي سار فيه عز الدين هو الطريق، وهو الذي يوصل في النهاية إلى التحرير، وأما غيره من الطرق وإن زينها المخدوعون والخانعون فلا توصل إلا إلى الذل. واستشهد الشيخ الجليل في يعبد، فقال فيه فؤاد الخطيب:
حرم على أطراف يعبد قائم .. في “الطرم” بارك حوله الرحمن
هبطته أطهر عصبة لو أنها .. سبقت لرتل مدحها القرآن
إن الزعامة والطريق مخوفة .. غير الزعامة والطريق أمان
ولما رأى عمامته لا تجعله يقبع في الزوايا والتكايا، ولا تحول بينه وبين أن يتجند بالرصاص، ويذخر البندقية، ولا تلقي عليه عظة الدبلوماسية المنافقة ولا التيجان الكاذبة، هتف مولعا به:
أولت عمامتك العمائم كلها .. شرفا تقصر عندها التيجان
وجعلت لاسم الشيخ أرفع رتبة .. نبذت قديم عهودها الأوطان
وشعر الشهادة نهر، فأما ما قاله الشعراء الشهداء، فأنا عازم على الكتابة عنه بإذن الله في المقالة القادمة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...