عبد الله بن رواحة | يا نفسُ إلّا تُقتَلي تموتي
بقلم: أيمن العتوم
| 10 يوليو, 2023
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: أيمن العتوم
| 10 يوليو, 2023
عبد الله بن رواحة | يا نفسُ إلّا تُقتَلي تموتي
شاعر، فارس، صحابي، أمير، بَدْرِي، رفيع.. صرف شعره في الحضّ على القتال، والذَّبِّ عن الإسلام، والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.. عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي.. مواقفه في حَمْل راية السيف والقلم مشهودة، غلبَ عليها ذِكرُه في معركة مؤتة، ومواقفه فيها شهيرة، صنعتْ منه بطلا خالدا، ومجاهدا عظيما، ومُقاوِما عنيدا.
فأوّل هذه المواقف الخالدات على مرّ الأعصُر والدهور، ما أنشده في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، سنة سبعٍ للهجرة، حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ذلك العام، فقال مُعَرِّضا بالمشركين:
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله .. خلوا فكلّ الخير في رسوله
يا رَبِّ إِني مؤمن بِقِيْله .. أعرف حق الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله .. كما قتلناكم على تنزيله
ضَرْبا يُزيل الهام عن مَقِيله .. ويُذْهل الخليل عن خليله
ثم إنه في السنة الثامنة جهّز الرسولُ صلى الله عليه وسلم جيشَ مؤتة، وأمّر عليه زيد بن حارثة، ثم قال: إنْ أُصيبَ زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيبَ جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.. ثم سار الجيش في ثلاثة آلاف، فودّعهم المسلمون قائلين: صَحِبَكم الله ودفعَ عنكم، وردّكم إلينا صالحين؛ حينها برز عبد الله بن رواحة، فأنشد أبياته الثابتات، يُؤثِر الشهادة على الرجوع إلى المدينة سالما، ويتمنى أن يستقبل طعنةً من يد كافرٍ حاقد تنفذ إلى أحشائه فتُخرِج الزبد والدماء من فمه، فيخرّ صريعا، وتصعد روحه إلى بارئها، فيفوز بالشهادة، وقف هذا البطل الفذّ في المودّعين الذين دَعَوا له بالسلامة، وأنشد بكل ثبات:
لكنني أَسأل الرحمن مغفرةً .. وضربة ذات فَرْغٍ تقذف الزبدا
أو طعنة بِيَدَيْ حَرّانَ مُجْهِزة .. بِحَرْبةٍ تُنْفِذ الأَحشاء والكبدا
حتى يُقالَ إذا مَرُّوا على جَدَثي .. أرشده الله من غازٍ وقد رشدا
ثم إن الجيش سار، حتى إذا نزلوا معان، من أرض الشام، بلغ الناسَ أنّ هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مئة ألف من الروم، وانضمّ إليهم من لُخم وجُذَام والقَيْن وبَهْراء وبَلِيّ مئة ألف، فاجتمع جيشُ الأعداء على مئتي ألف يقابلون ثلاثة آلاف من المسلمين؛ فذهب الناس يفكرون في أمرهم، وخَلُصوا إلى أن يبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيخبروه بعدد العدوّ، وينتظروا منه الرد، فهو إما أن يُمِدّهم بالرجال، أو يأمرهم بمتابعة المسير، فيتابعوا.. غير أن بطلا جَلْدا، وصنديدا عظيما مثل عبد الله بن رواحة، لا يرى ما يرون، بل يقف في الجمع المبارك فيقول بثبات الجبال الراسيات: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلّتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنها إحدى الحسنيين: إما ظُهور، وإما شهادة. وسجل التاريخ مقولة عبد الله بن رواحة هذه في صفحاته الباقيات مدى الآباد والأزمنة، بمدادٍ من الذهب، وما زال الناس والأبطال والقادة والثوّار والمقاومون إلى اليوم يقبسون من نور هذه الأحرف الشامخة.
قال الناس بعد مقولة شاعرنا: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس. فهل للأمة اليوم أن تقدّر دور الكلمة الصادقة في تأليب النفوس، وبثّ الحماسة في الصدور، وبعث العزيمة في القلوب، كما فعلت كلمات عبد الله بن رواحة؟! وهل للناس اليوم أن يعرفوا أنّ بضعة أحرف قد تجلب نصرا، أو قد تجرّ هزيمة، وأنّ الكلمة تقاتل كما يقاتل السيف، وتنهض بالهمم أكثر مما تنهض الأساطيل والجيوش والدروع ؟!!..
ثم إن شاعرنا، وقف بعد أن عزم الناس على المسير جرّاء كلماته الرائعات، فقال يتوعد الروم، ويُنذِرهم بأن خيول المسلمين قد تجهّزت لكي تخوض معركة حامية الوطيس، ولا تعود إلى مرابضها إلّا بالنصر المبين، قال:
جَلَبْنا الخيل من أَجَأٍ وَفَرْعٍ .. تُغَرّ من الحشيش لها العُكُوم
أقامت ليلتين على مَعَانٍ .. فَأُعْقِبَ بعد فَتْرَتها جُمُومُ
فَرُحْنا والجياد مُسَوَّماتٍ .. تَنَفَّسُ في مناخرها السَّمُومُ
فَلا وَأَبِي مُؤابَ لَنَأتِيَنْهَا .. وإِن كانت بها عرب وَرُوْمُ
فَعَبّأْنا أَعِنَّتها فجاءت .. عوابس والغبار لها بَرِيمُ
ثمّ التقى الجمعان، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاطَ في رماح القوم، وانتهَبَتْ لحمَه ودمَه سيوفُ الروم، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل براية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ألْحَمَهُ القتال نزل عن فرسه الشقراء، وعقرها، وظل يقاتل وفي يمينه الراية حتى قُطِعتْ يمينُه، فأخذها بشماله، وقاتل حتى قُطِعت شماله، فاحتضنها بعَضُدَيه، وظل يقاتل حتى استُشهِد، فلما رأى ذلك عبد الله بن رواحة، وهو ثالث أمراء الجيش، جعل يستنزل نفسه، وأخذه بعض التردد، فقال يحض نفسه على القتال:
أقسمتُ يا نفس لَتنزلنَّهْ .. لَتَنْزِلَنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنّهْ
إِنْ أجْلَبَ الناس وشدُّوا الرَّنَّة .. ما لي أَراك تكرهين الجنة؟!
قد طال ما قد كنتِ مطمئنة .. هل أنتِ إِلا نطفة في شَنّة
فاندفع يقاتل ببسالة لا مثيل لها، فطُعِن فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه، ثمّ أنشد:
يا نفسُ إِلا تُقتَلي تموتي .. هذا حِمام الموت قد صَليتِ
وما تمنَّيتِ فقد أُعطِيتِ .. إِن تفعلي فعلَهما هُدِيتِ
ثم إن ابن عمٍّ له أتاه بعظم عليه شيء من اللحم، فقال له بعد قتال مرير: شُدَّ بهذا صُلبَك، فإنك قد لقيتَ في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثم انتهسَ منه نَهسةً، ثم سمع الحَطْمَةَ وصوتَ القتال، فقال: وأنتِ في الدنيا؟! فألقاه من يده، وتقدّم الناسَ، وظل يقاتل حتى أسلم روحه إلى بارئها، وارتقى شهيدا في عِلّيين.
وهكذا صنع الإسلام من هذه الشخصية بطولةً عزَّ نظيرها في التّاريخ، وقلّ مثيلُها في الأمم والشعوب، ذلك أن النفوس الأبية، والهمم العليّة، إذا وجدتْ من الخير خلَفا، ومن الموت بدلا كما فعل الإسلام، قذفت بكل ما تملك مقوّماتها من الشجاعة والبأس، فلم تعدْ تعرف لهما حدّا ولا نهاية، ولم يعد بعد ذلك يعرف الناس لمثل هؤلاء مُنافِسا فيهما ولا مُصاوِلا..
صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
0 تعليق