عرفة وغزة وحجة الوداع!

بقلم: أدهم شرقاوي

| 15 يونيو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: أدهم شرقاوي

| 15 يونيو, 2024

عرفة وغزة وحجة الوداع!

المكان: عرفة

الزمان: السنة العاشرة للهجرة

أما الحدث فحجة الوداع

 نرجع بالزمان قليلا، ثلاثا وعشرين سنة إلى الوراء.. رجل وحيد في غار مظلم في بطحاء مكة ينزل حاملا النور إلى العالم!

اعتبارا من هذه اللحظة سيعلِّم هذا الأمي المتعلمين والفلاسفة والمفكرين ليكونوا بشرا! اعتبارا من هذه اللحظة سيعلّم هذا اليتيم رجال العالم ليكونوا آباء صالحين! اعتبارا من هذه اللحظة سيعلم هذا الذي فقد أمه طفلا نساءَ العالم كيف يكن أمهات صالحات!

اعتبارا من هذه اللحظة سيعلّم هذا الذي لم يعرف الفروسية قادةَ العالم خطط الحروب وأخلاق المحاربين! اعتبارا من هذه اللحظة سيعلّم هذا الفقير الذي كان يرعى غنم أثرياء قريش.. سيعلّم أثرياء العالم قانون الزكاة، وسيحث على الصدقة، ويقسم الغنائم، ويحثو المال حثوا!

***

غير أن الطريق إلى حجة الوداع لم يكن معبدا! لقد كانت ثلاثا وعشرين سنة من المشقة.. أخبره ورقة بن نوفل منذ اللحظة الأولى أن قومه سيخرجونه، وصدق ورقة!

ضاقت عليه قريته التي أحب، وتآمر لقتله قومه الذين جاء لإنقاذهم من النار! خرج تحت جنح الظلام إلى المدينة ليس معه إلا صاحبه، وكان الله ثالثهما!

بنى دولة كما العباقرة، وحارب كما الأشداء، وعقد الاتفاقات كما القادة، وأقام الأحلاف كما الساسة.. وعاد إلى مكة ليدخلها من أبوابها الأربعة في وضح النهار!

أما اليوم فهو على جبل عرفة، معه مئة وأربعون ألفا كلهم ينتظرون أن يخطب ليسمعوا، ويأمر ليفعلوا، وينهى لينتهوا، ثم قال الصوت الشريف: اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا.

 كان يعرف أن الأجل قد اقترب، فقد جاء نصر الله والفتح: وقد أرادها خطبة جامعة فكانت!.. أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد!

 أكان يعرف أن بعضنا سيضرب رقاب بعض، ويعتدي على أعراض بعض، ويأكل أموال بعض؟! أكان يعرف أن غزة ستذبح على مرمى حجر منا، وجيوشنا المدججة ستتفرج عليها، بل إن بعضها سيشارك في ذبحها؟! أكان يعرف أن السودان ستذبح بأموالنا وأطماعنا، وأننا سندفع لقتل إخواننا؟!

أكان يعلم أن قناة العربية ستسلقنا بألسنة حداد، وتطعن مجاهدينا في ظهورهم، حتى أننا لم نعد نعلم من أكثر أذى: العربية قناة بني النضير، أم القناة الثانية عشرة الإسرائلية قناة بني قينقاع؟! أكان يعلم أن علماء هذا الزمان سيعملون بالريموت كونترول.. حللوا هنا، حرموا هناك، انهشوا اللحوم هنا، وغضوا الطرف هناك!

ولكنه نادى فما سمعنا، وبلّغ فما أطعنا، ونصح فما اتّبعنا، وذكر فما حفظنا!. ألا وإن أقواما سيحول الله بينهم وبين شفاعته، ويقول له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!

***

ثم يكمل: وإن ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب! وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب!

ما أعظمه!. أول ربا يوضع ربا عمه، وأول دم يوضع دم ابن عمه.. وهو القائل من قبل: “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!”، وحاشا فاطمة! ولكنه أراد أن يسجل في التاريخ أن الإسلام أول من قال: لا أحد فوق القانون!

الربا حرام ولو كان ربا بني هاشم، وثأر الجاهلية حرام ولو كان الدم في بني هاشم، والسارق تُقطع يده ولو كانت ابنته!

أراد أن يعلمنا أن هذا الدين ليس فيه مجال للمحاباة.. الحق حق ولو جاء به أضعف الناس، والباطل باطل ولو جاء به قريب الرجل الأول في الدولة!

***

ثم أردف:

أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حقا، فاستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء.

 هكذا يجعل المرأة إحدى مسؤوليات الرجل لا إحدى ممتلكاته؛ فهو أخذها بكلمة الله وميثاقه، فليجعل منها أُمّا لا وعاء إنجاب، ورفيقة عمر لا جارية، وحبيبة قلب لا آلة جنس.

 ثم قال:

أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب!

 هذا هو الإسلام العظيم، لا أحساب ولا أنساب.. أبو لهب الهاشمي في النار، وبلال الحبشي في الجنة! أبو جهل القرشي في النار، وسلمان الفارسي في الجنة! أمية بن خلف العربي في النار، وصهيب الرومي في الجنة!

لو نفع إنساناً نسبُه لانتفع لأبو لهب، ولو نفع إنساناً مُلكه لانتفع النمرود، ولو نفع إنساناً ماله لانتفع قارون.. ولكن أكرمكم عند الله أتقاكم!

***

ويدور الزمان ألفا وأربعمئة سنة أو تزيد

وها نحن اليوم… وهذه عرفة اليوم يا الله!

وهؤلاء ضيوفك الذين قلت لهم {ولله على الناس حج البيت}، فقالوا لك: “لبيك اللهم لبيك!”، وأتوك من كل حدب ينسلون.. هؤلاء الذين تباهي بهم ملائكتك قائلا: عبادي أتوني شعثا غبرا.

أجل، عبادك يا الله!. الفقراء إن لم تغنهم، الضعفاء إن لم تقوهم، الأذلاء إن لم تعزهم، المتفرقون إن لم تجمعهم، المهزومون إن لم تنصرهم، المكسورون إن لم تجبرهم.

 هذه عرفة يا الله، وهؤلاء حجيجك.. تسأل عنهم ملائكتك: ماذا يريد هؤلاء؟ هؤلاء لا يريدون إلا أنت! سمعوا أن سوق العتق قد قام، فجاؤوا يبيعونك ذنوبهم ويشترون مغفرتك! فلا تفض السوق إلا وقد اشتريت الذنب، وبعت المغفرة، وتكرمت بالعتق!

هذه عرفة يا الله! فاتنا الوقوف فيها هذا العام، ولكن لم يفتنا الوقوف ببابك! جئناك بذنوبنا نسألك سؤال من نعلم أنه لا يردّ سائلا أن تعتق رقابنا من النار.. جئناك بعيون نظرت إلى حرام، وآذان سمعت لغيبة، وأسنان لاكت لحوم الناس، وألسن خاضت في أعراضها، وبأرجل مشت في غير رضاك، وأيد امتدت إلى ما نهيت.

جئناك نخبرك أننا ما عصيناك استخفافا بمراقبتك، ولا استهانة بعذابك، ولكن غرّنا عفوك فاجترأنا عليك! وطمَّعتنا بمغفرتك فطمعنا فيك، ولا غنى لنا عنك إلا بك.

ها نحن على بابك، عصاة مذنبون، وهذا يوم ظن إبليس من كثرة عفوك أن ستعفو عنه، فلا تساوِنا به، فإنا على كل ما فينا نحبك!

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

1 تعليق

  1. رحيق شهاب الدين

    حبيبي يا الله حبيبي يا رسول الله

    اللهم إنا نسألك بكل اسم سميَّت به نفسك أو أنزلته على أحدٍ من عبادك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تدفع البلاء وتفرِّج عن غزة وأهلها ومقاومتها ومجاهديها، ربِّ ليس لهم سواك وليس لها من دونك كاشفة، اللهم أطفئ نار الحرب بقدرتك وأذَن لها أن تضع أوزارها، ربِّ أنزل على غزة رحمتك ولطفك وسكينتك، واجبر قلوب أهلنا ومجاهدينا الأبرار بنصرك العزيز القريب المبين، وعوِّضهم أضعاف إيمانهم وصبرهم وجهادهم.

    اللهم ارحم المستضعفين من عبادك في كل مكان، واهدنا وردَّنا إليك رداً جميلاً، وأعزَّ الإسلام والمسلمين، وارفع الغمة عن هذه الأمة واخذل الشرك والمشركين وأهلِك أعداء الدِّين يا أكرم الأكرمين يا سميع يا قريب يا مجيب الدعاء حاشاكَ أن تردَّنا خائبين يا جبار السماوات والأرض يا مَن إن قلتَ للشيء كن فيكون.

    اللهم احفظ أستاذي القدير د. أدهم شرقاوي وبارك عمره، وأكرمه ووفِّقه وسدِّد قوله ورأيه وخُطاه، وأنر بصره وبصيرته وحقِّق مراده ومبتغاه، وارضَ عنه وارفع شأنه في الدنيا والآخره، وأكرمه بالفردوس الأعلى يا رب العالمين.

    آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...