مئةٌ وعشرون يومًا

بواسطة | فبراير 5, 2024

بواسطة | فبراير 5, 2024

مئةٌ وعشرون يومًا

تتناول هذه المقالة الصمود اللافت لمدينة غزة ومقاتليها أمام الحصار الذي دام لأكثر من خمس عشرة سنة، مواجهين قوى عسكرية هائلة. يُسلط الضوء على الإرادة الصلبة والقوة المدهشة التي أظهرها سكان غزة خلال فترة الحصار.

معجزة الصمود والتحدي في وجه القوى العسكرية الهائلة

إنها معجزة، لم تُعهَد في الحروب السابقة، ولم تستمر حرب مثلها، ولا كان في الحروب منذ أن دخلت الأسلحة الثقيلة نظيرٌ لها! صمدت مدنٌ من قبلُ حوصرت يومًا أو يومين أو عشرة، أو حتى شهرًا… هذه المدينة محاصرة منذ أكثر من خمس عشرة سنة ولم تركع.

نصبوا في وجهها حدودًا وحواجزَ من كل جهة، من الجهات الستّ، وفي العناصر الثلاثة كلها، البر والبحر والفضاء، التراب والماء والهواء… ولم تنكسر.

أصقبَ العالَمُ الظالم الكافر كله ضدها، جاؤوا بأسلحتهم من كل مكان، من العالم الجديد الذي يدعو نفسه مُتحضّرًا، ومن القارة الشقراء، ومن المَهمامِه البعيدة والمفاوز الغامضة، ومن فوق ومن تحت، ودخل العرب في سِلك ذوي الدماء الزرقاء فحاصروها مع مَن حاصروها، ومنعوا عنها الطعام والشراب مع من منعوه عنها، ثم ماذا؟ لم تنهزم!!

إنها معجزة حقّا… أن تصبّ عليها لا جهنم وحدها، بل جهنّمات، من آلاف الطائرات الغادية الرائحة، وآلاف الدبابات الجاثمة الرابضة، وآلاف الجنود المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، وآلاف الأقمار الصناعية التي ترصد دبيب النملة على الحجر المهمَل في الليلة الدامسة… ثم ماذا؟ لم يرفع مقاتلوها الراية البيضاء! ظلّوا إلى هذه اللحظة يتسلّلون، ويقتحمون، ويضربون، ويهتفون: “الله أكبر”، ويعودون سالمين.

صمدت الجيوش العربية بكل ما فيها من عتاد وعدد ستة أيام في نكسة حزيران عام 1967م، وإن شئتَ الحقيقة فقل: بل لم تكن إلا ست ساعات حتى كان كل شيء من طائرات الجيش المصري قد دُمّر بالكامل، وحُرِث المدرّج الذي تقف عليه حراثة لا تسمح لدراجة هوائية أن تسير فوقه مترًا واحدًا!

إذًا لم تصمد جيوش العرب في الـ 67 غير ست ساعات، وصمد المقاومون إلى اليوم أكثر من ثلاثة آلاف ساعة! قاتل العربُ مجتمِعين بقضّهم وقضيضهم وكبيرهم وصغيرهم دولةً واحدةً في حزيران، وقاتلَ فصيلٌ واحدٌ بأفراد مجهولين لا يعرف وجوهَهم إلا الله العالمَ أجمع بترسانته العسكرية كلها، القادمة من أصقاع العالم لتكون مع حليفته إسرائيل؛ قاتل بالرشاش ضد الصواريخ المتفجرة، وبالبنادق ضد الدبابات المجنزرة، وبالقذائف ضد الطائرات الشبح.

لم يقتل العرب في حرب أيار 1948م، ولا في حرب حزيران 1967م، ولا في حروبهم مع إسرائيل في السنوات الخمس والسبعين الماضية، نصف العدد الذي قتلتْه المقاومة في شهر واحد… إنها معجزة حقّا!

يقول العدوّ الإسرائيلي إننا مشَّطنا شمال غزّة، وقضينا على أوكار المخربين، وأغرقنا الأنفاق بمياه المجاري، وهدمنا الدُّور وأحرقنا الشجر؛ يعلن ذلك وزير دفاعهم، ثم تنطلق صواريخ المقاومة باتجاه تل أبيب قبل أن يُتِمّ وزير الدفاع مؤتمره الصحفي هذا؛ وقبل أن يطوي أوراقه باحثًا عن خيبة جديدة… إنها معجزة بلا شك.

إن في الأمر ما يدعو إلى الشك، إلى التساؤل، إلى الوقوف مليًّا بعد هذه الأيام المئة والعشرين من بدء الحرب على غزّة؛ ما الذي فعلته إسرائيل وجيشها الجرّار وجيوش العالم التي تقاتل معها؟ ما الذي حققته؟! الجواب الذي بات يعرفه العالم: إنها قتلت أكثر من عشرين ألف شهيد من المدنيين، لا بالمواجهة ولا بالقتال في الميدان، بل بحمم النيران التي تُسقطها الطائرات والراجمات، وبالمدافع والدبابات التي لا تكفّ عن الهدير. إنه جيش جبان إذًا، إن تفوّقكَ العسكري قابلَه انحطاط أخلاقي.

لو كانت الحرب متكافئة في نوعية الأسلحة، بل لو كان عند المقاومة خمس طائرات، وثلات دبابات – وأنا أضرب الأرقام جُزافًا- أمام الآلاف المؤلّفة من طائرات العدو ودباباته، هل كانت الحربُ ستكون الحربَ التي نراها؟ بالطبع كلا، بل إن طائرة واحدة لدى المقاومة تتبرع بها دولة عربية شقيقة ستقلب المعادلة، وستجعل رُكَب الشعب الصهيوني تُغنّي الميجنا من الخوف، وحناجرهم تنشق من الهلع وهي تصرخ فَزِعة، وسيهربون مع أول طائرة أو سفينة تُخرجهم من هذا الجحيم. إذًا لا تقل إنها حرب متكافئة، ولا إن مجموعة مقاتلين مطلوب منهم أن يقاتلوا جيوش الكفر متظاهرة متعاضدة، بل قل إنها حرب إبادة، حرب جنون بالمقاييس كلها، ثم اهتف بملء فمك وأنت ترى المقاومة تصمد أمام هذا كله: إنها معجزة!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...