مع القهوة

بواسطة | يونيو 19, 2023

بواسطة | يونيو 19, 2023

مع القهوة

ربّما، شيء ما غامض بالوجه القَدَري، أن يكون للقهوة كل هذا الحضور قديما وحديثا، وأن تنتشر في أصقاع الأرض هذا الانتشار الذي ربما لا يوازيه انتشار آخر؛ وأن تقرأ عن أدباء كانوا يشربون أربعين أو خمسين فنجانا في اليوم، وأنا منهم، وإن بدأت أرغم نفسي على التقليل منها، حتى لا يهاجمني عشقها أكثر من هذا فيكون ذابحا!.
لم ترافقني القهوة من البدايات، بل جاءت متأخرة.. أنا الآن أُحاول أن أتذكر متى التصقت بي التصاقا لا فكاك منه، في البداية كنتُ أشربها كما يشربها الناس عامة، إذا دُعيت إليها ولم أَدْعُها أنا، إذا كنتُ في ضيافة أحدهم، إذا كان هناك مأتم أو فرح، فالقهوة فيهما سواء، كما قال المعري:
وشبيهٌ صوت النّعيّ إذا قيـ
س بِصوت البشير في كل نادِ
أَبَكتْ تلكم الحمامة أَم غنّـ
ت على غصن فرعها المَيّادِ
لعل الذاكرة تنعشني، إنها بدأت بتلك الصورة، ذلك الفنجان الصغير الذي لم يعدْ يقنعني، فبدأت أشرب فنجانا كبيرا، عندما بدأتُ هذه المرحلة، نبّشتُ في صور ذاكرتي، فوجدت أن هذا الفنجان الكبير لم يكن يستقر على أية طاولة في أي مكان، إنه يستقر على مكتبي في تلك اللحظات التي أهيم فيها.. أهيم؟!. هل أنا من هذا النوع الذي يذهب به الحرف بعيدا؟. بالطبع، أريد أن أجد ما هو قادر على أن يساعدني على ذلك ولو كان وهما، فهل القهوة هي ما كنتُ أبحث عنه إذا؟. أكانت هي القادرة على أرجحتك في الوهم أو في الهُيام؟. أم إنها على النقيض من ذلك؟. إنها القادرة على الأخذ بيدك إلى مقامات التركيز، وأنت في الكتابة تحتاج إلى هذا التركيز. أم إنها كانتْ تفعل الأمرين؛ الضِّدَّين في الوقت نفسه؟. فالكتابة تحتاجهما معا، تحتاج هُياماً من أجل خيال أوسع، وتحتاج تركيزا من أجل رؤية التّفاصيل في ذلك الخيال الواسع، والقدرة على صياغته بالحروف.. هل أنا وجدت بهذا الإجابة؟. لا، لا أظن.. للقهوة سطوة من نوع آخر، لها حضور طاغٍ لا دليل عليه، ولا تفسير له، لكنه حضور، على أية هيئة جاء، فإنه فيك.

كان (بلزاك) يشرب أكثر من أربعين فنجانا من القهوة كما مرّ، وكتب حولها: “القهوة قوة عظمى في حياتي؛ لاحظتُ آثارها على نطاق ملحمي، فالقهوة تحمّص دواخلك”.

في كتاب (قهوة نامة) لعبد الله الناصر يذكر هذا النص الطريف عن علاقة الفيلسوف الوجودي (كيركيجارد) مع القهوة: “في حواره مع طبيبه اشتكى كيركيجارد من ضعف مزمن في جسده، فقال له الطبيب: أنت ضعيف لأنك تدمن القهوة وتمشي قليلا، وطلب منه التوقف عن القهوة وممارسة المشي الطويل؛ وحين نفذ كيركيجارد النصيحة وعاد للطبيب بعد شهر، مخبرا إياه بعدم تحسنه وباستمرار ضعفه، قال له الطبيب: هذا لأنك أسرفت في المشي وتوقفت عن القهوة. حينها قال كيركيجارد مقولته الشهيرة: حين أشرب القهوة تكون هي سبب ضعفي، وحين لا أشرب القهوة يتسبب ذلك بضعفي. إن هذا يلخص مشكلة الوجود الإنساني!.”
وكان (بلزاك) يشرب أكثر من أربعين فنجانا من القهوة كما مرّ، وكتب حولها: “القهوة قوة عظمى في حياتي؛ لاحظتُ آثارها على نطاق ملحمي، فالقهوة تحمّص دواخلك”. ويقول: “تمرُّ القهوة من حجاب المعدة إلى الدماغ كأنها الكهرباء، وتنبعث منها إشعاعات تستعصي على التّحليل”، ولهذا فهو “يوصي الباحثين عن إكسير البُنّ بشرب القهوة على معدة خالية للحصول على أفضل النتائج”.
لم أكن أطلب -في الغالب- من أحد أن يصنع لي قهوتي، وخاصة تلك التي أصطحبها معي إلى مكتبتي، من أجل أن تكون رفيقتي في الكتابة، كنت أصنعها بنفسي، درجة التحميص يجب أن تكون بين بين، منزلةٌ بين المنزلتين، إن سوادها قاتم، وإن شُقرتها فاضحة، وأنا أريد ما كان مُغريا، وهو ما بينهما؛ ثم على الماء في الدورق أن يُوضَع فاترا، لا هو ساخن ولا بارد، فإذا ارْتكزت الدَّلَّة بمائها الفاتر، وأُوقدتِ النّار الخفيفة تحتها، فيجب الانتظار لأقل من دقيقة من أجل رفع درجة حرارة الماء، فإذا أعلن الماء عن نفسه، وصار جاهزا لاستقبال أَشهر ضيف يمكن أن يذوب فيه فإنها ثلاث ملاعق ممتلئة ناضجة، أُسقِطُ ذراتها من مسافة فتر فوق الدّلّة على الماء، تذوب في الماء السّاخن، يكونُ أشد ما يكون لها شوقا، فيخفيها فيه، تخجل بعض هذه الذرات من هذا العناق الحميم، فتتكتل في زاوية، محاولة ألا تذوب، وهي تعلم أنها محاولة بائسة، لا يقف أمام الحرارة شيء، وليس على العشق أن يكون خجولا، أُساعدها على الذوبان، أُحركها بالملعقة حتى لا يبقى لها منها شيء، تصير كلها في الماء، في روحه، الماء الذي يغمض عينيه وهو يلتهم كل هذا الجمال، ثم تبدأ الحرارة دورها، البخار الذي تُصعده فوق الدلة، إنه أشبه براقصة متجردة، يتماوج صعودا، يختزن فيه رائحة القهوة الأسطورية، تدخل في أنفي، أشمّها طويلا، تُدوّخني الرائحة، يوقظني صوت النشيش، القهوة لم تحتمل كل هذه الحرارة، فتفيض، تصعد من الدلة المملوءة إلى نصفها في طريقها إلى الانسكاب، أتداركُها سريعا قبل أنْ تفيض، أرفع الدلة قليلا، إلى حرارة مناسبة تُساعد على الهدوء، أُذيبُ بالملعقة ما دار وما خرج عن المدار، كصوت يُعيد الصوفي إلى حلقته، ثُمّ أُقرّب الدّلّة من الحرارة، أعطي الحرارة فرصتها، وأُعطي البُنّ فرصته الثانية في محاولة أن يفيض، قبل أن ينسكب مغادرا الحوافّ أرفعه من جديد إلى مسافة كافية إلى الهدوء الثاني، أسكب ربع الدلة في الكأس، وأعيدها إلى النار، ثم تسعى إلى أن تفيض، أسكب في الكأس ما أراد أن يفيض، أُكرر الرفع والخفض والقبض والبسط على هذا النّحو أربع مرات، حتى إذا كُلّ ما في الدلة من القهوة استقرّ في الكأس وقد عَلَتْه طبقة كثيفة من القَتَر، فيه بعض الفقاعات التي لا تكاد تُرى، حملتُ كأسي جذلان، كأنني أضع ذراعي في ذراع معشوقة، وأهبط بها إلى مكتبي، وأُمنّي نفسي معها بنص جميل تفوح منه رائحة السّحر!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...