يحملون الوطن

بواسطة | مارس 25, 2024

بواسطة | مارس 25, 2024

يحملون الوطن

وما الوطن سوى أبنائه المخلصين، وما الوطن جغرافيا ولا حدودًا ولا أسلاكًا شائكة، الوطن أشلاء هؤلاء الذين يُفدُّونه بأنفسهم، ويموتون دفاعًا عنه أن يُهان أو يُذَلّ. وحين يقضي الإنسان وهو يجود بآخر أنفاسه من أجل دينه وحرّيته وعِزّة بلاده، فإنّ أنفاسه هي هواء الوطن، وإن دماءه هي ماؤه، وإن جسده هو ترابه.

يحمل الأب الجائع المنهارة قُواه ابنَه الجريح على كتفَيه، تتدلّى يداه من خلف ظهره، تتأرجحان مع مشية الأب البطيئة، يتمايل الأب ضعيف القُوى نحيل الساقين مع كل خُطوة من ثقل المحمول في رحلة النزوح الذابحة، بين أنقاض البيوتات المهدّمة والأشلاء المبعثرة.

ما أوجعَ أن يحمل الأب الستّيني ابنه العشريني! رأى الأول في الثاني امتداده فلم يتركه للموت، ورأى فيه غدَه الذي يحلم به، فسار به وئيدًا وإن أتعبه، فإنّ أثقلَ حَمْلٍ أن تحمل غدك وتاريخك وروحك ومشاعرك وحبّك على كتفَيك متمثّلاً ذلك في ابنك.. ابنك الذي كان الأجدر به أن يحملك هو، ولكن ماذا يفعل إذا كان جريحًا وجائِعًا وعَطِشًا، وروحه تراود جسده أن تتحرّر!

إنهم يحملون أبناءهم وهم لا يدرون أنهم يحملون أوطانهم، أوطانهم التي تركها أشقّاؤها للذئاب تنهشها، وللغربان تنعق في سمائها، وللأفاعي تجوس خلال ديارِها.. كيف يمكن أن تحمل فوق ظهرك وطنك بكل تاريخه وأيامه ومواسمه، وجراحه النازفة وعيونه الدامية؟!

وتلك أمٌّ تسير دامية القدمين، تحمل رضيعها الذي لا يتجاوز عمره أسبوعين، يتضاغى من الجوع، تسير به من شمال غزّة إلى جنوبها، وبنادق الصهاينة موجّهة إلى رأسيهما، وهو يبكي، وهي تبكي، والسماء تبكي، ولا أحد يمسح دموع الباكين، ويتسلى الصهاينة، ويوجّه قنّاص فوهة البندقية إلى رأس الرضيع، ويتفجّر دمه على صدر أُمّه، وتسقط أمّه من الهول، تنهار قُواها، وتسبح في بركة من دم ابنها، ولا تدري ما تفعل، ويأتيها الجواب برصاصة أخرى في رأسها، ومن بعيد يمكنك أن ترى روح الأم تلحق بروح رضيعها الصاعدة، تتعانقان ثم تتابعان صعودهما إلى السماء.

وتلك قافلة أخرى من النازحين، فيهم الشيخ الهَرِم، والمرأة العجوز التي لا تقدر على السير، وفيهم الطفل الذي لا يعي ما يجري، وفيهم الرجال المقهورون المغلوبون على أمرهم، وأصوات الجنود الصهاينة تلهب ظهورهم بزعيق كزعيق البوم: “لا أحد يتوقف”. ويسيرون في هجرة الذل، وفي صفّ المهانة، ويحدث أن ينحني أحدهم ليلتقط شيئًا سقط منه على الأرض، فلا يقوم من انحناءته تلك، إذ أتته رصاصة فجّرتْ دماغه فاختلط بتراب الأرض.. لا أحد من المفزوعين في طابور المهاجرين يملك أن يصنع له شيئًا، ولو أراد أن يغامر بحياته فما عليه سوى أن يرفعه عن الطريق من أجل أن يجده المسعفون ليدفنوه، أو يغطيه بحرام من أجل ألا تنهشه الكلاب الضالّة، إذًا لكان مصيره إلى جانبه يسبحان في دمائهما وحسرتهما ولوعة أهلهما.

ويحدث في هذا الطابور الطويل الذي يمتد لكيلومترات متباعدة أن يزعق جندي حاقد دون أن يكون لذلك غاية أو سبب، ويهتف: “أنت.. ذا القميص الرمادي، تعال إلى هنا”؛ ويخرج المسكين، وفي الطريق إليه – وهو يدري مصيره أو لا يدري- ترتجف ساقاه، لكن ارتجافهما لا يطول، إذ تأتيه رصاصة تبعث بروحه المسكينة إلى الضفة الأخرى من الحياة في لحظة غادرة.

إنهم يرحلون من منفى إلى منفى، ومن نزوح إلى آخر، لا يحملون على أكتافهم متاع دنياهم فحسب، وإنما يحملون كذلك أحلامَهم وذكرياتهم، وآمالهم وآلامهم، وتاريخا من البلاء والابتلاء، بل إنهم بكل ما في الكون من وجع يحملون على أكتافهم أوطانهم.

1 تعليق

  1. Touria

    تصوير لواقع إخواننا في فلسطين الحبيبة..حقيقة اصابتني قشعريرة و أنا أقرأ هذا الوصف المهول لواقع حياة الظلم و الاعتداء على أحبابنا في الأرض المباركة.. أسأل الله تعالى أن يفرج كربهم و همهم و ينصرهم نصرا قريبا يارب و الله يرحم شهدائهم ويحتسب صبرهم أجرا عند ربهم. آمين
    و دمت أستاذي الغالي مبدع. بارك الله فيكم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...