يد واحدة لا تصفِّق!

بواسطة | يناير 15, 2024

بواسطة | يناير 15, 2024

يد واحدة لا تصفِّق!

يستعرض المقال حكايات المقاتلين في ميدان المجالدة، حيث يتناول قصص الصمود والتضحية، ويبرز مدى تحدّيهم للظروف القاسية خلال المعارك. إنها قصص تحمل في طياتها قوة الإرادة والتصميم على تحقيق النصر.

بين الفداء والصمود في ميدان المجالدة

نعم، ولكنها تقاتل، وتجالد، وتجاهد في سبيل الله.. يد واحدة لا تصفّق، ولكن هذه اليد الواحدة تستطيع أن تُلقّم الصاروخ، وأن تضغط على الزناد، وأن ترمي القذيفة لتصيب هدفها بدقة.

صمود بين الألم والتحدي

أقول ذلك عن أحد مقاتلي المقاومة في حرب غزّة الدائرة لأكثر من مئة يوم، إذ أُصيبتْ يده في المعركة فقُطِعت، فبانَ كُمّ قميصه خلوًا فارغًا تحرّكه النسمة الخفيفة، فلم يعدْ في هذا الكُمّ ذراع؛ لكن ذلك المشهد الذي نقلتْه لنا الأحداث لم يثنِه عن العودة إلى ميدان المجالدة لحظة، ولربما عاد ليقاتل بيُسراه، ويُمناه ما زالت تنزف! ولم يقل إن لي مندوحة في استراحة المُحارِب فليس على المريض حرج؛ كأنما تمثَّل ما قاله المتنبي:

وأَشــجــعُ مـنّي كـلَّ يــوم سَــلامـتـي   ومــا ثـبـتـتْ إلا وفـي نـفـسـهـا أَمْــرُ

تـمتــرَّسـتُ بالآفـــات حـتـى تركــتُها   تـقول أَمَاتَ الـموت أَم ذُعِـر الذعـر؟

وأقــدَمــتُ إِقـــدام الأَتِـــيِّ كـــأن لـي   سوى مُهجتي، أَو كان لي عندها وِتْر

تراث البطولة الإسلامية

وليس هو في ذلك بِدْعًا، فقد سبقه كبار الصحابة في هذه المأثرة، فما هو إلا تلميذ في هذه المدرسة النضالية العتيقة التي تجترح المعجزات.. سبقه جعفر بن أبي طالب، قاتَل في مؤتة بعد أن استُشهِد زيد بن حارثة، فحمل الراية بيُمناه فضرب في ميدان المعركة وصال وجال حتى قُطِعت، فلمّا قُطِعتْ تلقّى الراية بيُسراه، وقاتل حتى قُطِعتْ، فلما قُطِعت أخذها بين عضُدَيه حتى لا تسقط، فإنها رمز هذا الشموخ العظيم وهذا الثبات الصليب، وإن سقوطها سقوط هذا الرمز، ثم إنه قاتَل حتى استُشهِد، فكان ليدَيه المقطوعتين جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء.

وفعل هذا صحابي آخر في معارك الفتوح، هو عبد الله بن سَبُرة الحرشي، قال أبو علي القالي في كتابه (الأمالي): بارزَ أَرْطَبُونُ الرُّوميُّ عبدَ الله بن سَبُرَة سنة خمس عشرة فقتله عبد الله، وقطعَ أرطبونُ يَدَه، فقال:

يُمْـنى يـديَّ غـدتْ مـنِّـي مُـفـارِقـةً   لم أسـتطع يوم فِـلْطاس لهـا تَـبَـعَـا

وما ضَـنَـنْـتُ عليها أَن أُصـاحبهـا   لقد حرصْتُ على أن نستريح مَعَا

ورُوِي أنّ مُعوّذ بن عفراء الذي أبلى بلاء الأبطال في معركة بدر، فقد كان ممّن شارك في قتْل أبي جهل، قيل إنّ يده قُطِعتْ وهو يقاتل، وظلّتْ مُدلّاةً فِي جنبه، فلما خشي أن تَعُوقه عن القتال وضع رِجْله عليها فنزعها. وقاتل لا يصدُّه عن أن يحظى بقتل رأس الكفر شيء، ولا يمنعه من أن يُبلِيَ البلاء الحسن نزيفٌ في جسدٍ قد أثخنتْه الجراح.

إنّ واحدَنا اليوم ليتعلّل بأقل تَعِلَّةٍ من أجل أن يجد لنفسه عُذْرًا عن القيام بواجبٍ أو أمرٍ ما، وإن هؤلاء لينفون الأعذار من قاموسهم إذا كانت لديهم هِمّة يصطنعون بها المستحيل، فتأتي أفعالُهم عجبًا!

إنها مدرسةٌ إذًا، وإن هذا المقاتل الذي لقّم القاذفات بيدٍ واحدةٍ هو فرع من هذه الدوحة الغَنّاء، وماءٌ من هذا النهر الممتدّ.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...